سلام غزة التي نحب. غزة التي تحملنا ونحملها، تتحملنا ونتحملها، تأخذها الأمواج فنحس بالغرق، وتأخذنا الحياة فتزهق روحها. سلام على التراب الذي هو امتداد التراب، على البحر الذي هو ذات البحر، على الهواء الذي هو ذات الهواء، على بقجة الأحلام التي تبعثرت تحت سياط النكبة على سوافي الرمال. سلام على الألم الذي وحده يبقى مع الأمل. وسلام على الأمل الذي يحمل تعب الروح على بساط الحياة السحري. سلام على النائمين على جراحهم، المتوسدين آلامهم، على الباعثين في النفس ثقة الياسمين.
سلام غزة رغم كل شيء ومع كل شيء. رغم الحزن والجرح، رغم الدمار والهدم، رغم التضييق والخنق، رغم السجن والتعذيب، رغم الأيدي المكبلة والأجنحة المقصوصة، رغم كاتم الصوت، رغم البحر المغلق والسماء المغطاة بالحصار والمعابر التي تضيق بنا. سلام غزة مع الأمل والبسمة، ومع الحلم بالغد الأجمل والنهار الأكثر بهاء والحلم الأنقى. مع الفتاة الحالمة بحياة كريمة والطفل الذي يصبو للعب في كأس العالم، ومع كل حلم لم ينجح كل غيلان الاحتلال في قتله.
سلام على أطفال مشردين باحثين عن أحلام لم يدركوها، على فتيةٍ يبيعون الأوراق المعطرة على مفارق الطريق، تحرق جباههم الشمس. على عجوز يحمل فستقاً وبزراً يبيع لعابرين بدراهم تقي معدته الجوع. على نسوة يستجدين في الباحات وأمام المحال. على الأمل يتسلل في عبارات تسرق الحياة، تحمل عبء الأماني المشردة.
سلام على أم تنتظر الكهرباء منذ الفجر حتى آخر المساء، تحمل وعودها لأطفالها بليل مضيء أو نهار يقضونه على التلفاز. سلام على طالبة تنتظر النور حتى تراجع المنهاج قبل أن تتقدم للامتحان يوم غدٍ، تربط النهار بالليل خشية من أن تغافلها الكهرباء وتأتي دون أن تدري، تلاحقها تحذيرات أستاذها بالرسوب. سلام على طفلة لا تفهم «شو يعني قطعت الكهربا» وهي تنتظر إسفنج بوب على التلفاز. لا تفهم كيف يموت التلفاز فجأة بعد أن كان يعج بالصورة والصوت. سلام على تفاصيلهم التي لا تبهت، ورجاءاتهم التي لا تنتهي، وأمنياتهم التي لا تجف. سلام على بحثهم عن تفاصيل الحياة رغم ركام العتمة. لا تزهق أرواحهم مهما أذلهم الليل.
سلام على مناضل يتفقد ماضيه، لحظات السجن والتحقيق، دهاليز التعذيب، مسالخ الشبح والتنكيل بالأعضاء، زنازين الرفاق وكلماتهم بالصمود وعدم الخضوع على جدران الزنزانة، أيام طويلة لصناعة المنديل للحبيبة، وأسابيع في المحاولة رقم مائة لكتابة الرسالة للأم. الدموع تبلل البرش، والتنهيدة توقظ مارد الحزن الذي لم ينم أصلاً. رقاب وهامات تصبو إلى السماء. تنظر إلى النجوم، تطير معها. سلام على تلك الأحلام المكسرة على صخرة الواقع المرير، أحلام كانت تنير عتمة السجن فيما مضى، باتت الآن تثقل القلب، تدمي العين، تركض هرباً وخجلاً، تتعرق من هول العمر الجديد. سلام على كل الألم الذي كان يجمعنا، على كل الآهات التي كانت تخرج دفعة واحدة من صدورنا. سلام على الماضي الذي نشتاق، والعذاب الذي وحدنا، والأمل الذي قربنا، والبسمة التي كانت تضيء عتمتنا. سلام علينا حين كنا.
سلام على سجان كان سجيناً، على أخوة ضائعة، وعشرة ميتة، ومحبة مفقودة. سلام على قامع للحرية كان يبحث عنها. على الأخ يعتقل أخاه، وابن يلعن أباه، وجار يشي بجاره، ورفيق درب يعذب رفيقه في الزنزانة، كأنه نسي عذاباتهما معاً، رشفة الماء المرة، عتمة التحقيق، البوح والهمس وتضميد الجراح، عبارات التشجيع والصمود، الآهة وتذكر الأم والحبيبة والأطفال. هل قلت لك حين نخرج سنبني وطننا معاً، نشيد الحياة سوياً، نعزف لحن العودة على وتر واحد! هل قلت لك: إننا نستحق الحياة بعد عذابات التحقيق! أتذكر وعودنا المشتركة، وفرحتنا المخبأة في أماسي السجن وفرحتنا الكبيرة حين نخرج! لم نكن على قدر الوعد، ولم نصن عذاباتنا، ولا نحن حافظنا على البسمة التي تتسلل من حلكة تلك الليالي لتقع في غياهب حاضر أكثر ظلاماً. هل ترى لم نكن أهلاً لذلك؟!
سلام على كل شيء جميل قد مات، وعلى حفار القبور الذي أذهب فينا الحلم، أو المتاح منه.
سلام على الوطن الذي يحبنا ولا نحبه، على بندقية الجندي المجهول مسحولة على الطرقات، نظراته صوب القدس مرمية تحت الأرجل. سلام فلسطين التي ننشدها متفرقين، ونخطب ودها ونحن نمزق وجوه بعضنا بعضاً، لا نريد أن نبدو وسيمين عند الخطوبة. سلام على الضعف والوهن، الترهل والعفن، السبات والشخير. سلام على وطن استبدلناه بتفاصيل حياتنا. سلام على هم أقل من أحلامنا وعلى مطالب أقل من السقف المنخفض لآمالنا. على عائلة صارت عائلات، وحلم بات كابوساً، وبقية باقية من الوطن باتت ندبة في جبينه. على خارطة تسبّ علينا وهي ترى آهاتنا الكاذبة ونحن ننظر إلى يافا وحيفا وبئر السبع وننشد إننا عائدون، لأننا استبدلنا الذي هو أدني بالذي هو خير. أي وطن هذا الذي نبيع ونشترى به ونصدح بحب الوطن.
سلام على الحياة حين يصبح البحث عنها خروجاً على المألوف، وحين يصبح الجهر بانتقاد عبث الحاكم وضعف الإدارة ولاقدسية الشراكة، ومراهقة السياسي، ومخاتلة الناطق، وشح الخدمات، وقلة تلبية المطالب، حين يصبح قول «لا» كفراً ومعصية، والقول بالحياة الكريمة – لأننا نستحق أفضل من هذا- خيانة، وحين يظل الوطن الزاوية المهملة في نقاشاتنا، المادة الأقل إثارة لحميتنا.
سلام على مناضل نسى خاطفوه سني عمره خلف القضبان، ونسوا حين ضربوه أن أكفهم تلاصقت مع أكف «أبو داني» المحقق، سلام على العذابات حيث لا تتوقف، والبطش حين لا يقف عند حد، وتكميم الأفواه وخطف الأجساد، وتعذيب الأنفس، سلام على الغصة وأنت تقف تنظر لماضيك ثم تسأل: أمن أجل هذا أمضيت عمرك في الزنزانة؟ أمن أجل هذا فقدت أباك وأخاك؟ أمن أجل هذا ماتت أمك دون أن تراك؟ أمن أجل هذا ذهب الرفاق عابرين إلى عالم آخر؟ أمن أجل هذا لم تر أولاد عمومتك الموزعين في المنافي؟ أمن أجل هذا ذهب الأحبة وبقيت وحيداً؟
سلام عليك وأنت تتذكر الماضي وتعجز عن النظر في غيمة الأفق.
سلام على ياسر عرفات، سلام على خليل الوزير وصلاح خلف وأبو يوسف النجار، وأحمد ياسين والرنتيسي، والشقاقي، وجيفارا غزة وفتحي الغرباوي ورفيق السالمي والشهداء الستة وجمال أبو الجديان والجعبري وفقهاء. سلام عليهم لأنهم وحدهم ما زالوا يقنعوننا بأن فلسطين ممكنة، وأننا باقون رغم كل شيء.
سلام على الباحثين عن الشمس خلف الغيمات، الناطرين المطر حتى في الصحارى، القارعين خزان اليأس، الفارين من كابوسهم نحو الحلم، الحاملين قناديل البهجة الممكنة، والمتاح من العدم، والنور من العتمة.
سلام غزة.