الإضراب الذي أعلنه نحو ربع عدد الأسرى في سجون الاحتلال، ودخل أسبوعه الثاني، يذكر الفلسطينيين بأيام خوالٍ حين كان الأسرى من داخل سجونهم يحركون وفي أحيان كثيرة يقودون النضال ضد الاحتلال.
حتى سنوات قليلة سابقة، كان إحياء يوم الأسير في السابع عشر من نيسان كل عام، يتوقف على بعض النشاطات التضامنية، ذات الطابع الشعبي، بقدر يعكس الالتزام الأخلاقي، والقليل منها، كان يعكس الالتزام السياسي، الذي يستهدف بلورة هذا الملف، لكي يتخذ طابعاً دولياً.
ملف الأسرى، يعكس عملياً، طبيعة الاحتلال، الذي يرفض التعامل معهم كأسرى حرب، ويرفض الامتثال للقوانين والمواثيق الدولية، بالرغم من أنه في الحقيقة ينطوي على جرائم حرب لا تتوقف إسرائيل عن ارتكابها بحق قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني.
في سجون الاحتلال ما يقرب من سبعة آلاف أسير فلسطيني، يتبع بحقهم الاحتلال سياسة الباب الدوار، ويتخذ منهم فئران تجارب لا فرق في التعامل معهم بين طفل أو شيخ أو امرأة، فالكل يخضع للقوانين العنصرية التي تميز على نحو واضح بين ما يقوم به الفلسطينيون في إطار الكفاح الوطني وما يرتكبه المستوطنون، والجيش، وأجهزة الأمن الإسرائيلية.
في سياق هذا الصراع، لطالما ارتكب المستوطنون، والمتطرفون المتدينون، جرائم موثقة، وطافحة بالأدلة، لكن أياً من هؤلاء لم يخضع لذات الأحكام التي يخضع لها مناضل فلسطيني.
وخلال السنة الماضية وما انقضى من هذا العام، ثمة سلوك منهجي لدى الأجهزة الاحتلالية، بتنفيذ أحكام بالإعدام الميداني بحق مواطنين فلسطينيين. وبالرغم من أن عديد التقارير الدولية، والتصريحات المهمة، التي أشارت إلى مثل هذا النوع من الجرائم الاحتلالية إلاّ أن إسرائيل لم تحاكم أياً من مرتكبيها.
غير أن الاعتراف بهذه الحقائق التي تصدر مراراً وكثيراً من قبل الفلسطينيين لا يردع محتلاً، وإن كان يراكم وبالتدريج، عملية استنهاض الضمير العالمي، وتوسيع نطاق التضامن، القائم على فهم متزايد لأبعاد الصراع الدائر على هذه الأرض.
قبل الإعلان عن الإضراب الجاري، نجح العديد من الأسرى المناضلين، في أن يكسروا بأمعائهم الخاوية، قرارات وإجراءات الاحتلال، ما يؤشر على إمكانية تحقيق إنجازات كبيرة، حين يكون الإضراب جماعياً، وهادفاً.
من الغريب ألا يستجيب كل الأسرى السبعة آلاف للإضراب، الذي يخوضه حتى الآن ما يقرب من ألف وخمسمائة، والأولى أن يعلن كل الأسرى انضمامهم إلى هذا الإضراب، الذي سيحرك كل الشارع الفلسطيني ويقدم درساً أكيداً في أهمية المقاومة الشعبية السلمية.
يبدو أن البعض من الفلسطينيين، لا يروق لهم، أن يأخذ الأسرى قضيتهم بأيديهم، فذهبوا لتقديم تفسيرات وشروحات، تتساوق مع بعض التحليلات التي قدمها كُتّاب إسرائيليون، وضعوا المسألة في سياقات لها علاقة بتناقضات تنظيمية، وأبعاد شخصية، وأهداف سياسية.
المقال الذي نشرته مجلة «نيوزويك تايمز» الأميركية، بقلم «مانديلا فلسطين» مروان البرغوثي، شكل اختراقاً غير مسبوق للإعلام الأميركي المعروف بخدمته كل الوقت للسياسات الإسرائيلية.
ذلك المقال شرح الأمر، كما يريده البرغوثي، الذي حدد الأهداف المرجوة من وراء هذا الإضراب، والتي تتعلق بتحدي إجراءات الاحتلال، وجرائمه بحق الأسرى، ولذلك ما كان على فلسطيني أن يحرف الأمور عن سياقاتها.
في الواقع لا يمكن في فلسطين التي يصارع أهلها الاحتلال، على نحو شامل، الفصل بين نضالات مطلبية مهما كان نوعها، وبين أبعادها السياسية، ولذلك، سيكون لهذا الإضراب أبعاد سياسية بالتأكيد ليس أقلها ما اضطرت «نيوزويك تايمز»، لفعله وهو نشر المقال.
إسرائيل التي لا تلتفت، لأي معايير أو قوانين دولية، لا تفكر في الانصياع لطلبات الأسرى، بل إن عديد المسؤولين فيها، يجاهرون بسياسة ردعية حتى لو أدى ذلك إلى استشهاد العشرات من الأسرى.
وزير الدفاع الموتور أفيغدور ليبرمان دعا إلى اتباع النهج الذي سلكته رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، تاتشر مع أسرى الجيش الجمهوري السري، حيث تركت بعضهم يواجه الموت، وكالعادة، مقابل الحرث الفلسطيني النشط على المستوى الدولي لنصرة الأسرى، مارست إسرائيل، ولوبيها اليهودي الأميركي ضغوطاً هائلة على إدارة «نيوزويك تايمز»، التي استجابت عبر تزوير بعض الحقائق التي وردت في مقالة البرغوثي.
قد يعتقد البعض أن الحركة الإضرابية للأسرى، والتضامن الواسع والنشط المستمر معهم، سيحرج الرئيس محمود عباس، الذي يزور الولايات المتحدة في الثالث من الشهر القادم، ذلك أن الولايات المتحدة التي تتبنى الموقف الإسرائيلي الذي يصنف الأسرى على أنهم إرهابيون، قد يؤدي إلى تشديد الضغط على الموقف الفلسطيني.
لا يمكن تجاهل هذا الأمر، لكن ذلك لا يوازي أهمية أن يتسلح الرئيس عباس، بهذا الموقف الشعبي العارم، لا لكي يكون وحسب ملف الأسرى مطروحاً بقوة على جدول الأعمال مع الرئيس الأميركي، وإنما لأن ذلك يساعد في تخفيف الضغوط الأميركية الإسرائيلية الثقيلة على السياسة الفلسطينية.
لقد برع الإسرائيليون في استخدام لعبة المعارضة، وتوظيفها دائماً للتملص من استحقاقات سياسية، ومواقف صعبة، فلماذا لا يجيد الفلسطينيون هذه اللعبة، ثمة معارضة واسعة، لا يستهان بها في الشارع الفلسطيني للخيار السياسي الذي تقوده منظمة التحرير والسلطة، ونقصد خيار المفاوضات، والاستجابة للمساعي الأميركية الخبيثة، الداعمة بكل قوة للأطماع والسياسات الإسرائيلية، ما ينبغي أخذه في الاعتبار من قبل صُنّاع السياسة الدوليين.
من يستطيع التأثير على المضربين الذين وضعوا حياتهم على أكفّهم، في معركة مسقوفة أهدافها، ومفتوح زمانها، ومن يستطيع لوم الرئيس عباس، على نشاط، تقف وراءه إرادة قوية وجماعية، لأسرى في سجون الاحتلال؟ إضراب الأسرى فرصة للاستثمار السياسي، وفرصة، أيضاً، لتعديل المزاج الشعبي، الذي يتوحد على ملف الأسرى، عسى أن يؤدي ذلك إلى تعديل المزاج الشعبي تجاه ملف المصالحة، الذي دخل عالم المجهول، رغم محدودية الوقت، على الموعد الذي حدده الرئيس محمود عباس.