وضعت الحرب أوزارها وانتهى استهداف الآليات العسكرية الإسرائيلية لكل ماهو حي وغير حي في غزّة، لكنها تركت الأحياء والمدن مدمرة من فوق الأرض وتحتها، فلا بيوت ولا شوارع ولا عمارات أو أبراج يمكن أنّ تُعطي بعضًا من الحياة لمواطنين عانوا الأمريّن في حرب استهلكتهم ماديًا ومعنويًا ونفسيًا على مدار عامين متتاليين شهدوا خلالها فصولاً من الألم والجوع والحصار.
فما أنّ تم الإعلان عن وقفٍ لإطلاق النار حتى بدأ المواطنين في لملمة أرواحهم من جديد، فمن نزحوا للجنوب حملوا بعضاً من أمتعتهم وتوجهوا شمالاً نحو ديارهم "كما يحبون أنّ يصفوها"، غير آبهين بما سيواجهونه في الشمال، وهل ما زال جيش الاحتلال متواجد في تلك الأحياء المدمرة أم أنّه انسحب منها دون عودة، فمشاهد النزوح نحو الشمال شاهدها الملايين حول العالم لآلاف المواطنين المكلومين عبر شارعي الرشيد وصلاح الدين، لا يعرفون شيئاً عن مناطقهم، وما أنّ وصلوها حتى دمعت أعينهم من الحزن والمفاجأة، فتلك المناطق التي تركوها شبه معدومة عادوا إليها من جديد وكأن زلزالاً ضربها وغير ملامحها للأبد، فبعض المواطنين لم يستدلوا على أماكن سكناهم، لأنّه وبكل بساطة بعد أنّ تم قصف تلك الأحياء السكنية قامت جرافات الاحتلال بتجريف الأحياء والبيوت والشوارع وتسويتها بالأرض فتركت الناس في ذهول وحيرة وحزن لاينتهي، عدا عن ذلك لا بنى تحتية ولا مياه ولاحياة بالإضافة لانتشار الأوبئة والأمراض والحشرات الضارة، والتي تُفاقم من الأزمة الحالية فيُجبر بعض المواطنين على العودة مرة أخرى نحو جنوب القطاع، في نفس المكان الذي نزحوا إليه آخر مرة.
وكالة "خبر" كانت حاضرة مع المواطنين وعاشت معهم لحظات الألم ما بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار والتقت معهم.
المواطن كرم الغول، وهو من سكان حي النصر شمال مدينة غزة، لديه سيارة جميلة ومنزل عاش فيه أجمل أيام حياته مع أسرته الصغيرة، له ذكرياته وله فيه أحلاماً كبيرة، تركه مُرغماً بعد أنّ حوّل الاحتلال منطقته لجحيم ليجبره على النزوح نحو الجنوب، يقول: "كان لي بيت من أجمل البيوت، منطقتنا جميلة ومكتظة بالسكان، كانت هناك حياة ومحال تجارية وحركة دائمة في المكان".
ويواصل حديثه مع مراسلة "خبر": "أثناء عودتنا في النزوح الأول كان البيت متضرراً بشكل جزئي، ورممناه كما حال البعض لنستر أنفسنا، لكن بعد النزوح الثاني وعودتنا بعد وقف إطلاق النار تفاجأنا بأنَّ البيت تم هدمه بشكلٍ كامل ولم يتبقى منه شيء، ونحن نعيش الآن في خيمة على شاطئ بحر دير البلح في ظروف مناخية وحياتية صعبة".
وبسؤاله عن موعد عودته لشمال القطاع، قال: "لا أفكر حالياً بالعودة لمكان سكني المُهدم، هناك لا يمكن أنّ نعيش لا بنى تحتية ولا مياه ولا حتى مكان صالح لوضع خيمة نعيش فيها أنا وأولادي، كل ما هناك ركام في كل مكان".
وفي نهاية حديثه، وجّه الغول مناشدة عاجلة للمؤسسات الدولية ذات العلاقة بضرورة توفير كرفانات ومساكن متنقلة تحميهم من برد الشتاء وصعوبة الحياة التي تنتظرهم في المستقبل.
بيت العائلة أصبح من الماضي
باسم بارود يقول لمراسلة "خبر": "كان لي منزل مكون من ثلاث طوابق بجوار مشفى كمال عدوان شمال القطاع، كنت أعيش فيه مع أولادي حياة طبيعية كغيري من المواطنين الآمنين حتى جاء يوم السابع من أكتوبر وقلب حياتنا رأساً على عقب، كسر كل شيء فينا، خسرنا القريب والصديق، خسرنا البيت والراحة ولمة العائلة".
ويُتابع: "على مدار عامين ونحن ننزح من مكان إلى آخر على أمل أنّ تنتهي الغمة وتقف الحرب ونعود مجبوري الخاطر إلى بيوتنا، لكن لم يحدث إلا السيء، تعبنا ونزحنا وقتلونا وقصفوا كل مكان نهرب إليه، وتحملنا ذلك على أمل أنّ نعود لنجد المنزل كما تركناه، لكننا وجدناه كومة من الركام، تهدم تحته شقاء العمر واللحظات الجميلة التي عشناها فيه، ومما زاد من ألمي أنَّ الاحتلال أسِرَ ابني ولانعرف عنه شيئاً، واستشهد حفيدي'ابن ابني' فزاد ذلك من ألمنا".
وأضاف: "نحن الآن نزحنا في مدينة دير البلح، فاستأجرت نصف بيت أنا وأسرتي المكونة من خمسة أفراد، على أمل أنّ يبدأوا قريباً في إعادة الإعمار وبناء منزلي المدمر لكي يواصل أحفادي وأولادي حياتهم بشكل طبيعي بعيداً عن الحروب والدمار".
أعيش في خيمة أصحابي
أبوسامر الكتري، كغيره ممن فقدوا الحجر والشجر والحبيب والأخ والصديق، تجرع الويلات وألم النزوح والقصف والجوع والحصار، حيث يُحدثنا عن وجعه، قائلاً: "أنا من سكان شرق جباليا ونازح حالياً في دير البلح بالمنطقة الوسطى، بيتنا تعرض للقصف بطائرات F16 في شهر يوليو الماضي ولكن لم يتم تدميره بالكامل، ومع دخول الدبابات للمنطقة تم تدمير ما تبقى منه".
وبتوجيه السؤال المعهود له عن موعد عودته لمنطقة سكناه في شمال القطاع، يقول: "منطقتنا حالياً صفراء يُمنع الرجوع إليها، وإنّ شاء الله سنعود إليها إذا أصبح هناك استقرار".
ويُتابع: "مرت أيام الحرب طويلة وصعبة خسرت فيها الغالي أخي الذي ارتقى شهيداً وفي النزوح الثاني خسرت أبي الذي تعب بعد فشل الهدنة، وتوفي قبل شهر تقريباً من الحزن والألم".
ويُواصل: "حالياً لا مكان لي أنّ أعيش فيه، لا خيمة ولا شادر، أعيش في خيمة أصدقائي مع أمي وإخوتي ولا نقول سوى حسبنا الله ونعم الوكيل، بعد أنّ كان لنا بيت يأوينا وأب وأم وأخوة نجتمع معاً على سفرة واحدة، لم يتبقى شيء الأخ والأب والبيت كله ذهب مع الرياح في حرب قتلت فينا كل شيء".
قصة أخرى
هاني راضي، يقول لـ"خبر": "ساكن بشقة فى بيت العائلة بشارع الجلاء ومعي أخوة متجوزين عددهم 6، البيت بيسترنا وأمى مُقعدة على كرسي متحرك، نزحنا أول مرة تضرر البيت وقعدنا فيه بعد ما قمنا بإصلاح عدة غرف منه، ورجعنا نزحنا قبل شهر على خانيونس، وقبل وقف إطلاق النار بساعات دمروا منطقتنا بالكامل".
وأكمل: "طبعاً أنا طول عمرى عايش بظروف صعبة قبل الحرب ونزحت لا أملك مال ومديون وطلعت بطريقة صعبة بعد إصابة بناتى بالقصف وربنا سترهم والآن نازح بخانيونس لا أستطيع الرجوع للشمال حالي كحال كتير من الناس لقلة الإمكانيات ولا أملك مال لأنه أنا كنت بشتغل قبل الحرب موسيقى بالحفلات، والحرب وقفت حالنا وخسرنا شغلنا وبيوتنا ومستقبلنا".
واستدرك: "صدمة فقدت فيها احساسي بأي اشي وغير إني بكيت مثل الأطفال وحسيت إنى ضايع مليش مكان يحتويني، بالإضافة إنه بطَّلْ عندي نفس للأكل ولا للكلام ولا للنوم".
وتساءل راضي: "وين بناتى وزوجتى حيقعدوا؟! أنا ممكن أدبر حالى بأي مكان، لكن عائلتي وين أروح فيها!".
تخيل
قصة أخرى لوجع مشابه يسردها الدكتور إسماعيل حمادة، حيث يقول: "كحال بقية أهلنا في غزّة، تم مسح بيتنا تماماً، كنت في الطابق السادس… وينه؟ أنا لا أراه، الطابق نفسه اختفى، بلا أثر، لا أخفيكم سراً هذا الأمر صار للأسف متقبَّلاً، فحال أكثر من 90٪ من أهل غزة بلا بيوت".
ويُتابع:"تخيّل لا سمح الله أنك راجع من شغلك اليوم، لكن ما عندك بيت ترجع عليه! وين رح تروح؟ ما في مكان. والبديل الطبيعي الإيجار وهذا الخيار غير متوفر في غزّة؛ لأنَّ أغلب البيوت راحت وإن وُجد بيت، فتكلفته فلكية".
فيه ريحة أمي ولمة العيلة
محمد عزمي يكتب عبر صفحته الشخصية في موقع "فيسبوك": "البيت مش حجر،.فيه ريحة أمي وضحكتها وتعبها وذهبها، فيه تعب والدي سنين وسنين، كل زاوية كانت تشهد على صبرهم، واليو ما بقي إلا الحنين، يحاول يرسم ملامح المكان الي راح".
واستطرد: "أخذني الشوق إليه مسرعًا، فسرتُ طويلًا ، بعد أنّ سرتُ مشيًا عشرات الكيلو مترات، حتى أكرمني الله بالوصول إلى ركامه في شمال غزة، بعد ستة أشهر من نزوحنا عنه، يوم خرجنا مجبرين تحت القصف والإبادة، بعد تجدد الحرب بعد شهر رمضان، وصلتُ إليه بمشقةٍ بالغة، أبحث عن أثرٍ من بيتي، فوجدته ما زال شبه واقف، كأنه يُقاوم معي، رغم كل ما حلّ به سابقًا، لكن الدمار اليوم أضعاف ما كان، والوجع أكبر مما يُحتمل".
وأاف: "دخلتُ شقتي فلم أجد شيئًا، لا شئ سوى سجادةٍ يتيمة، سُرقت محتوياتها بالكامل، وكأن عديمي الدين والضمير لم يتركوا لي حتى ما يُذكّرني أنني كنت يومًا هنا، بل سرقوا حتى رائحة الأيام، والذكريات التي كانت تسكن حتى بين تفاصيل الأشياء الصغيرة".
قضيتُ ليلةً هناك
ويصف محمد الليلة التي مكث فيها في بيته المدمر بالصعبة والمؤلمة، حيث يقول: "ليلةً من القهر والعجز، نمتُ فيها بين الركام، كأنك تنام في مقبرةٍ من الأحزان والأنين، يا الله، كم هو موجعٌ أن تعود إلى بيتك، فلا تجد إلا الصدى والرماد واللا شيء، وغادرتُ المكان الذي طالما حلمتُ بالرجوع إليه،.فلم أجد ما أبقى لأجله لا ماء يرويني، ولا حياة تعانقني، لم يتبق سوى الركام الذي يئن تحت قدمي، والحشرات التي تتسلل بين أنقاض ذكرياتي، كأن الزمن قد ابتلع كل شيء، وترك لي الصمت والفراغ فقط".
يُشار إلى أنّه تم رصد وجع الناس عبر منشوراتهم في موقع "فيسبوك" والتي يتناقلوا فيها صور بيوتهم قبل وبعد، ليُظهروا حجم الدمار الذي وجدوه وعن المعاناة التي سيعيشون فيها سنين طويلة، وهي كالتالي:
يُذكر أن هذه الحرب التي بدأت في أكتوبر 2023 واستمرت حتي أكتوبر 2025 لم تترك شيئاً في غزة إلا ودمرته بشكل كامل أو جزئي
كحال البيوت المنشآت التجارية والتي تم تدمير 90% منها لتبدأ رحلة العذاب مع المواطنين الذين لا يعرفون أين سيعيشون أو كيف، فلا أماكن صالحة ولا أماكن فارغة يمكنهم وضع خيامهم المؤقتة للعيش فيها ولا بنى تحتية ولا أي مظهر من مظاهر الحياة.