أستطيع تخيُّل خيبة الأمل التي ارتسمت على وجهي محمد بركة، وعضو الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة «عادل عامر»، حين تصدت لهما مجموعة من طلبة جامعة بيرزيت (محسوبة على اليسار) ومنعوهما من دخول الجامعة، للمشاركة خلال حفل تأبين المناضل الوطني «تيسير العاروري»، بحجة أنهما مطبعان!
لا تهدف هذه المقالة للدفاع عن محمد بركة وعادل عامر؛ فهما قامتان وطنيتان باسقتان، بل تهدف إلى تسليط الضوء على أسلوب «الطرد»؛ فقبل أيام منع محتجون في الجامعة العربية الأميركية المفكر التونسي «يوسف صديق» من إكمال محاضرته، بمجرد أن حاول الاقتراب من التابو المقدس.. ما يدل على أن منهج الطرد والرفض والتشنّج في ذهن البعض هو تعبير عن الوطنية الصادقة وعن التطهرية الثورية!
ليس مستغرباً وجود مجموعات عنصرية أو جاهلة ومتعصبة في أي مجتمع، ولكن من غير المقبول تواجد مثل هذه المجموعات في جامعاتنا، وأن يترك لها المجال لتسيء التصرف ضد ضيوف الشعب الفلسطيني وأصدقائه، وأن تسيء لأجواء الحريات العامة تحت شعار حرية التعبير! طبعا، مع التأكيد على حق الطلبة بالتعبير عن معارضتهم لأي مفكر، أو رفضهم لأية شخصية سياسية تمثل أية دولة منحازة لإسرائيل.. لكن، ألا يمكن التعبير عن ذلك بأساليب تليق بجامعة عريقة؛ أي باللافتات، والشعارات، والهتافات، إذا تعذّر التعبير والاحتجاج بالحوار، والمناقشة وتقديم الحُجة، وطرح الأسئلة المحرجة والمباشرة؟
عندما زار رئيس وزراء فرنسا «ليونيل جوسبان» جامعة بيرزيت في العام 2000، بعد أن كان اتهم قبلها بيوم حزب الله بالإرهاب، جوبه بعشرات الطلبة الغاضبين وهم يلقون عليه الحجارة والزجاجات الفارغة ويجبرونه على الفرار.
وتكرر الأمر في العام 2013، حين زار الجامعة القنصل البريطاني في القدس «فينسينت فين» وأراد إلقاء محاضرة، إلا أن حشداً من الطلبة رموا سيارته بالحجارة، وأرغموه على المغادرة، وهم يرددون هتافات منددة بالسياسة البريطانية وبوعد بلفور.
وعلى ما يبدو أن الطرد هو الأسلوب الذي بات يستسهله الطلبة، لدرجة أنهم لم يعودوا يميزون بين وزير أو سفير لدولة «إمبريالية» وبين قائد فلسطيني؛ فعندما زار «أحمد قريع» الجامعة حين كان رئيسا للحكومة 2005، استقبله عشرات الطلبة من الكتلة الإسلامية بتظاهرات منددة، وغاضبة، وهمّوا بطرده (كما جرت العادة) لولا حماية الشرطة الفلسطينية.
وتكررت عادة الطرد مع الصحافية الإسرائيلية «عميره هاس» حين حضرت للمشاركة في مؤتمر علمي في الجامعة (2014).
و»هاس»، لمن لا يعرفها؛ يهودية يسارية مناهضة للاحتلال، ومؤيدة للفلسطينيين.
تم تصنيفها من قبل «منظمة صحافة بلا حدود» كواحدة من بين 100 صحافي حول العالم يحملون لقب أبطال المعلومات، وهي الصحافية الإسرائيلية الوحيدة التي تسكن مع الفلسطينيين في غزة ورام الله منذ العام 1993، وتم اعتقالها مرتين من قبل سلطات الاحتلال.
وقد حظيت بشهرتها من عامودها الدائم في صحيفة «هآرتس» المتخصص في الشأن الفلسطيني، والذي طالما أثار حفيظة الجمهور الإسرائيلي.
ومقابل ذلك، مثلاً، لم تطرد جامعة «تل أبيب» أستاذ التاريخ اليهودي «شلومو ساند»، بل أبقته محاضراً فيها، رغم أنه نسف في كتابه «اختراع الشعب اليهودي» الأسس التاريخية التي تقوم عليها الدعاية الصهيونية، بل قوّض الرواية التوراتية بأكملها، بينما منعت جامعة بيرزيت في وقت سابق المؤرخ اليهودي اللامع «إيلان بابيه» من إلقاء محاضرة في الجامعة نفسها، رغم أنه يحمل نفس أفكار «ساند»، بل إنه يطالب بتطبيق حق العودة للاجئين الفلسطينيين.
مع تكرار عمليات الطرد، صار أي مفكر أو قائد سياسي أو شخصية أكاديمية يفكر مائة مرة قبل القدوم للجامعات الفلسطينية، خشية طرده منها، أو الإساءة إليه.. فهل هذا ما نريده لجامعاتنا التي نفاخر بها؟!
لن أجادل هنا في مسألة التطبيع؛ فهذا موضوع شائك، ولن أجادل في مدى أهمية ما يسمّى اليسار الإسرائيلي، أو تفهُّم أسباب غيابه وضعفه، وحتى لن أجادل في مبدأ اختراق المجتمع الإسرائيلي، وتعميق التناقضات فيه، وإحداث فجوة في جدار الوعي اليهودي، وهل هذا مبدأ أخلاقي، أم براغماتي تجيزه ضرورات الصراع؟! وإلى أي مدى نجح الفلسطينيون في مسعاهم هذا منذ العام 1977، وحتى الآن.
بل سأجادل في موضوع خطير آخر، هو التعصب في الوطنية، الذي يجعل منها شوفينية نرجسية، وشكلا من العنصرية، التي ترفض الآخر لاختلاف لونه أو دينه أو مذهبه.. هذا التعصب الذي يعتبر أن كل يهودي هو بالضرورة مؤيد للاحتلال، وبالتالي سيكون عدواً للشعب الفلسطيني، أي يضع كل اليهود والإسرائيليين في سلَّة واحدة، يتساوى فيها المستوطن والجندي والمتطرف العنصري باليساري العلماني المناهض للاحتلال والرافض لكل المنظومة الصهيونية، أي تتساوى فيها «فيليتسيا لانغر»، و»ليا تسيمل» المعروف عنهما دفاعهما عن الأسرى الفلسطينيين، وفضح ممارسات الاحتلال، مع المتطرفة «إيليت شاكيد» التي دعت لقتل جميع النساء الفلسطينيات.
ويتساوى فيها «جدعون ليفي»، و»يوري أفنيري» الذي يدعو لإقامة دولة فلسطينية، مع «ليبرمان» الذي يطالب بطرد كل الفلسطينيين، بل والأخطر أنه ينظر لفلسطينيي الداخل نظرة عنصرية يعتريها الشك والاتهام.
وفي الجانب الآخر من الصورة، لا ننسى أن جامعة بيرزيت ومنذ تأسيسها وهي جزء مهم من الحركة الوطنية الفلسطينية (كما هي بقية الجامعات الفلسطينية)، قدمت مئات الأسرى وخيرة القادة وعشرات الشهداء، حتى نالت بجدارة لقب جامعة الشهداء. لكنها في السنوات الأخيرة تشهد تراجعا في مستوى وعي الطلبة، وصارت الحياة السياسية فيها أشبه بالمناكفات والمزايدات، تسودها سياسة الرفض العدمية، بتعبيرها الفج: «الطرد».