ربما يضطر الرئيس الأميركي دونالد ترامب للاقتناع مبكراً، بأن قدرته على إعادة عجلة التاريخ أو الزمان إلى الوراء، تكاد تكون معدومة، أو أن الأوان قد فات، فقد جاء متأخرا، بما يعكس المقولة، بأن تجيء متأخراً، خير من أن لا تجيء أبدا، فليست كوريا الشمالية فقط، من تصدم واشنطن بقدرتها على التحدي، وليست روسيا فقط تعيد صورتها قبل عقود، على الأقل حين عادت لاستخدام حق النقض « الفيتو « في مجلس الأمن تباعاً، خاصة في الملف السوري، ضد الإرادة الأميركية، ولا الصين بقوتها الاقتصادية، إضافة لقوتها العسكرية، ولا الهند ولا حتى إيران وتركيا وفنزويلا، بل حتى الحليف التاريخي، المتمثل بالدول الأوروبية، ما زال يحلم بان يشب عن الطوق، وأن يصل سن الرشد « فيستقل « عن العرّاب الأميركي.
وعلى عكس استطلاعات الرأي التي خدعت الجميع قبل بضعة أشهر، في الغرب الأميركي، كانت استطلاعات رأي الناخبين الفرنسيين قريبة جدا، إلى حد يقترب من التطابق، مع ما جرى من انتخابات للرئاسة الفرنسية التي جرت أول من أمس، حيث فاز في معركة انتخابية شرسة، تصدّرها أربعة مرشحين جديّين، نالوا نحو 85% من أصوات الناخبين، بفروقات قليلة فيما بينهم، ليذهب اثنان منهم إلى الجولة التالية الحاسمة، نظراً إلى انه كان واضحاً أن أحداً من المرشحين بعيد جداً عن تحقيق الأغلبية البسيطة من الجولة الأولى.
وتماماً كما توقعت استطلاعات الرأي انتقل كل من ايمانويل ماكرون وماريان لوبان للمرحلة التالية، ليختار الناخبون الفرنسيون احدهما رئيسا للجمهورية، حيث تشير استطلاعات الرأي بتوقع شبه مؤكد، إلى أن ماكرون هو الذي سيفوز، نظرا إلى أن ناخبي مرشحي اليمين واليسار، فرنسوا فيون وجان لوك ميلشنون، سيصوتون لمرشح الوسط، ولن يصوت ناخبو المرشحين الخارجين من السباق للوبان، لأنها مرشحة اليمين المتطرف أو المعسكر القومي، حيث في هذه الزاوية تصطف جميع ألوان الطيف الوطني ضد المعسكر القومي.
فقط استطلاعات الرأي كانت حائرة، ربما بسبب حدة المعركة الانتخابية، أو التقارب بين المرشحين المذكورين، بين من يتصدر في المكانة الأولى، لوبان أم ماكرون، وأحيانا لوبان أم فيون، ثم بين من ينافس لوبان في الجولة الثانية، ماكرون أم فيون، أي أن الاستطلاعات توقعت طوال الوقت بان تكون ماريان لوبان احد متصدري الجولة الأولى، أي أن تضمن الانتقال للجولة التالية، ثم تخسرها لصالح أيا كان منافسها، ماكرون أو فيون أو حتى ميشلنون.
الآن، وبعد أن تحققت « نبوءة « استطلاعات الرأي الخاصة بالجولة الأولى، بقي أن تتحقق نبوءتها في الجولة الثانية، التي تشبه التنافس الذي جرى بين دونالد ترامب وهيلاي كلينتون، من حيث أن التنافس يجري بين امرأة ورجل، ولكن مع الاختلاف في توقع فوز المرشح الرجل هذه المرة، فهل تصدق هنا استطلاعات الرأي أم تفاجئ المراقبين والمتابعين فتفوز لوبان، كما فاز ترامب ؟ !
من الصعب جدا توقع أن يحدث هذا الأمر بعد أسبوعين، مع أن « يمينية « لوبان تشبه « يمينية « ترامب « ومع ذلك فان الانتخابات الرئاسية الفرنسية أظهرت عددا من النتائج التي تحدث لأول مرة.
فقد سجلت هذه الانتخابات قطيعة مع المشهد السابق الذي كان يقتصر فيه التنافس على الأحزاب الاشتراكية مع أحزاب يمين الوسط، بحيث انه يمكن القول بأن « انحيازا « لجهة اليمين قد حدث في مزاج الناخب الفرنسي، بعد أن انحصر التنافس بين مرشح الوسط ومرشح اليمين المتطرف، ومن جهة لوبان التي كانت قد حققت مكاسب انتخابية كبيرة في الانتخابات المحلية عام 2015 ، حققت تجاوزا تاريخيا في عدد المصوتين لحزبها _ الجبهة الوطنية، أول من أمس.
أما ماكرون، إذا ما فاز، فانه سيكون اصغر رئيس لفرنسا ( 39 عاما ) منذ فترة طويلة، والذي لم يكن معروفا قبل ثلاث سنوات، أي قبل أن يعين وزيرا للاقتصاد تحت رئاسة فرنسوا هولاند، بحكم انه مصرفي ناجح، وإن لم يكن أبدا نائبا في البرلمان، فانه يمثل بذلك « تجمع الجمهوريين والاشتراكيين والوسط «، ويمثل عمليا نموذجا جديدا في السياسة الفرنسية بما تتمتع به شخصيته الشابة من حضور ومن قدرة على التفكير بطريقة منفتحة ومفاجئة، كما حدث إبان زيارته_ وهو مرشح _ للجزائر.
منذ اللحظة الأولى، كشف انتقال ماكرون ولوبان للجولة التالية طبيعة الاصطفاف الداخلي والخارجي وراء المرشحين، ففي حين تلقت لوبان التهنئة من رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الروسي، تلقى ماكرون التهنئة من رئيس المفوضية الأوروبية ومن مسؤولة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي.
فيما دعا مرشح الحزب الجمهوري فيون ناخبيه للتصويت لماكرون، وكذلك فعل رئيس الوزراء برنارد كازينوف بدعوته جميع الديمقراطيين للتصويت لماكرون في الجولة الثانية.
ولعل ابلغ واهم تعليق جاء من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، حيث تمثل فرنسا الشريك الرئيسي لألمانيا في الاتحاد الأوروبي، حين تمنت الفوز لماكرون بعد أن أشادت بموقفه تجاه الاتحاد الأوروبي.
أي أن فرنسا باختصار، بانتخابها المتوقع لماكرون اختارت أن تدعم الاتحاد الأوروبي وان تواصل طريق الخروج من عباءة التبعية لواشنطن، بتوجيه الرسالة القوية والتي مفادها أن « العيال كبرت « يا أميركا، وعليك بدلا من محاولة تغيير العالم ليتوافق مع مقاسك السياسي، عليك أنت أن تفكري منذ اليوم ببرنامج «ريجيم» قاس، حتى تحافظي على مقعد ضمن قيادة جماعية للكون.