وفدنا في واشنطن ربما يرى ملامح أكثر وضوحا للموقف الأمريكي، مع أن بعضاً منها عرض صراحة اثناء لقاءات جيسون غرينبلات في المنطقة، ومن ضمنها بالطبع لقاءه مع الرئيس محمود عباس.
الوفد الفلسطيني سيستمع أكثر مما يتكلم، وهذه فضيلة سياسية نحتاجها في هذا الوقت بالذات، وفي ذلك المكان الذي أغلقت أبوابه أمامنا لفترة طويلة.
الرئيس ترامب الذي يقود أكبر دولة في العالم بالمزاج الشخصي، ويتحول من النقيض الى النقيض بطرفة عين، قد نكون محظوظين اذا تم لقاءه مع الرئيس وهو في مزاج رائق، تحدوه رغبة في أن يكون اللقاء بداية لافتة لتحرك أمريكي جديد، نأمل أن يكون من حيث النتائج أفضل ولو قليلا من تحرك كيري، الذي أحببنا مواقفه ولم نقتنع بقدراته.
واذا كان ترامب ما يزال في مرحلة الاستطلاع والاستكشاف فلن يعدم عباقرة الصياغة في الخارجية او البيت الأبيض، تقديم نص لا ينفر الفلسطينيين ولا يزعج الإسرائيليين، فالرجل وإن كان استراتيجيا الحليف الأول والاهم لإسرائيل والداعم التلقائي لسياساتها، الا أنه في الوقت ذاته راغب في الظهور بمظهر الوسيط والمسهل لعودة الطرفين الى مائدة المفاوضات، مراهنا على ان الإسرائيليين قد يخففوا ولو قليلا من استفزازاتهم، وبالمقابل يستطيع الاعتماد على استعداد الفلسطينيين للعودة الى المفاوضات دون اشتراطات قاسية كتلك التي كانت في عهد ما قبل ترامب.
الحكاية هنا ما تزال في نطاق الجزء الأسهل من مجرى استعادة العملية السياسية من دائرة الاستحالة الى دائرة الممكن، فإذا ما تخيلنا استئنافا سريعا للمفاوضات علنية كانت في واشنطن، او سرية موازية في أي مكان آخر، فسوف تبدأ المعاناة مع نتنياهو الذي لن يصغي الى ترامب الا فيما يراه مناسبا لاجندته المعلنة في المسألة الفلسطينية.
سنواجه فاتورة نتنياهو المثقلة بالطلبات وأبسطها تعجيزي، وفق منهجه الذي يحب ان يبدأه من الاخر.. أي على الفلسطينيين والعرب معهم ان يقدموا كل ما لديهم سلفاً على ان ينظر في امر المقابل فيما بعد.
هذا ما يسعى اليه مع العرب من خلال طرحه التطبيع أولا، يليه النظر في الشأن الفلسطيني، وهو بذلك يستخدم تحالف الامن الاقليمي لخدمة اجنداته.
وبالنسبة للفلسطينيين، فيطلب منهم تقديم كل ما لديهم للتعبير عن حسن نيتهم، بل انه يطلب منهم اكثر مما يطلب من الإسرائيليين حين يتصل الامر بيهودية الدولة، انه اشتراط لم يجرؤ على تقديمه للإسرائيليين الذين لا يرونه مدخلا لبلوغ سلام حقيقي مع الفلسطينيين والعرب، واذا ما تم تجاوز هذه النقطة اما بصياغة مخففة او بتراجع مؤقت عنها فلابد من الاصطدام بالسقف الاستراتيجي الذي اعلنه نتنياهو للسلام مع الفلسطينيين...
له السيطرة الأمنية المطلقة المفتوحة المكان والزمان من النهر شرقاً الى البحر غرباً، بما يتطلبه ذلك من احتفاظ بأراض بالغة الأهمية بالنسبة للفلسطينيين، والواضح منها حتى الان منطقة الاغوار ومناطق المستوطنات والقدس الكبرى، وعلينا ان ننتبه الى أن ذلك كله ليس مجرد شروط لنتنياهو بل أساسا يعتمده الإسرائيليون جميعا لإبرام تسوية مع الفلسطينيين، وإذا كان هنالك من تمايزات داخل إسرائيل حول هذا الامر، فهي ليست جوهرية ولا تقترب من الحد الأدنى الذي يقبل به الفلسطينيون.
السؤال الوجيه في هذه الحالة ليس ما هو موقف ترامب ولا ما سيقول لعباس في البيت الأبيض، او ما يقوله الناطقون باسمه على الميكروفونات، بل ما هي حدود قدرة ترامب على حمل نتنياهو أو إسرائيل على تغيير شروطها وتحسين اسقفها.
لا أحد يعرف على وجه الدقة ماذا سيفعل ترامب مع نتنياهو، والى أي مدى يكسر المحرم الأمريكي التقليدي الذي التزمت به الإدارات السابقة جميعا وهو الامتناع عن الضغط المباشر على إسرائيل لمصلحة بذل جهد لاقناعها.
هنالك مقدمات يجدر الانتباه لها فلسطينيا، أهمها وضع حراسات أمريكية على أبواب الجمعية العامة ومجلس الامن، لمنع الخطاب الفلسطيني من مواصلة عمله على صعيد المنظمة الدولية بكافة مؤسساتها، فالسيدة نيكي هيلي صاحبة التصريحات النارية لن تسمح بانشغال الأمم المتحدة في أي شأن يزعج اسرائيل، أما مجلس الأمن فهو محرم حتى مجرد المرور من أبوابه، كل ذلك يمكن ابتلاعه والتغاضي عنه، لو تقدم ترامب بمبادرة متوازنة لا يعلنها فقط وإنما ينفذها، ولا يطالب الفلسطينيون بأكثر من انسجام هذه المبادرة مع القانون الدولي أولا والمبادرة العربية للسلام ثانيا.
ومن أي جهة نظرنا إلى المشهد السياسي، فإننا نرى حقيقة مؤلمة لنا جميعا وحتى للعالم، وهي أن نتنياهو هو المشكلة الأولى، وأي إدارة في إسرائيل حتى لو كانت اكثر مرونة فهي مشكلة ثانية، اما الثالثة التي ما نزال نحاول اختبارها فهي القدرة الأمريكية على إرغام إسرائيل على قبول تسوية مع الفلسطينيين، متحررة من الشروط التعجيزية المتوالدة كل يوم.