«فقدت وعيي دون أن يُغمى علي، شيء أشبه بالهلوسة، فمرة أبكي ومرة أنام ثم سرعان ما أستيقظ لأبوح بما اعتدت أن أُسِرّه، بدأ الأمر بألم في الأسنان، طلبت حبة مسكنة للوجع من طبيب السجن، وما أن تناولتها حتى دخلت في ما يشبه غيبوبة ذهنية أو استعادة لا واعية للذكريات»!
تذكرت هذه الشهادة، التي أدلت بها إحدى الأسيرات المحررات عن حقل التجارب الطبية في باستيلات العتمة، وأنا أتابع الأسير المحرر عصام قضماني يحدث مذيع «الجزيرة» أحمد منصور في إحدى حلقات «بلا حدود» عن «بنتوثال الصوديم» العقار، الذي كشفت قناة عبرية عن حقن الجنود الإسرائيليين به! فإن عدت لكلمات ونستون تشرشل الأخيرة قبل صعود الروح حين قال: «ليس لدي ما أقدمه لكم سوى الدم والدموع والحلوى» تدرك لماذا يعمل الاحتلال على تخليص الجندي الإسرائيلي من أوجاع ذاكرته، بحلوى الصوديوم، لتريحه أكثر من جريمته!؟
جيجي وشيرين والحرية
عادة ما تسعى الكاميرا وراء مشهدين: الفتنة والجريمة، وهما إن اختلفا بما يثيرانه من متعة ومن دهشة، إلا أنهما يلتقيان عند نقطة تقاطع واحدة، هي الإثارة، ولمتابع غربي يرى جيجي وبيلا حديد اللتين تعتزان بجذورهما الفلسطينية، وهما تختطفان الكاميرات والأبصار والألباب، ولا يرى شيرين العيساوي ولا لينا الجربوني ولا أمل جمعة ولا أم قيس ولا قاهرة السعدي ولا ورود القاسم، ولا أخريات عشن وراء القضبان، لن يصدق أن للحرية في فلسطين وجها آخر، لا يُسمح للعالم أن يراه، رغم السعار، الذي يصاب به صناع المشاهد الإعلامية، حين يتعلق الأمر بانتهاك حقوق الضحية، و«الهولوكست»، التي يُعاد إنتاجها إعلاميا وسينمائيا وتوثيقيا، خير مثال على هذا الهوس الدعائي للجريمة، فمن تلوم إذن على هذا التعتيم؟ المشاهد الغربي، أم الساسة، أم اللوبي أم بنات «حديد» اللواتي لا ذنب لهن سوى جمالهن وانتمائهن!
لم أزل أستحضر ما قالته لي شيرين العيساوي بعد حريتها: «الحرية هي الحرية، في كل مكان في العالم، ولكن مذاقها بعد أسر ألذ… لا يجربه من يعيشه ولا من ينتظره بل من يناضل في سبيله»!
فن الألم!
(استأصلوا رحمي، لم أكن أعلم أن التخلص من الألم، أشد إيلاما منه! كنت واعية، رفضوا حقني بمخدر وكبلوني بالسرير بعد الانتهاء من العملية، أما الآن، نسيت حريتي، لأن ألمي هو ذاكرة زنزانتي) هذه هي إفادة الأسيرة أمل جمعة لجريدة «أسرانا» الألكترونية، وهي حالة تتماهى بشكل أو بآخر مع إحساس الفنانة المكسيكية «فريدا كاهلو» بالموت، حين قالت: «كم أتمنى أن يكون الخروج ممتعا، ولا أتمنى أن أعود ثانية إلى هناك»!
أحضان الرماد!
أعرف أيها المشاهد أن مواضيع الأسرى لا تجذبك كثيرا، ولذلك سأتحايل عليك وأصطحبك في رحلة سياحية إلى معرض للموت في أوروبا، علني أستدرجك لكشف ما خفي من أسرار السجون.
الرسام التشيكي «رومان تيك»، الذي رحلت أمه وهو طفل، نظم معرضا للوحات رسمها برماد جثتها، ليس فقط تحييدا للموت ورهبته، بل تعبيرا عن اشتياقه للمسها، علما بأن اللوحات ليست للبيع، فما هو إحساسك أيها المشاهد بهذا الجنون؟ هل تراه استهانة بقدسية الموت في زمن تهرس فيه الجثث تحت الأقدام والمدافع أمام الكاميرات؟ أم أنه عليك أن تتأمل حنين طفل محروم من حضن أمه؟
على قناة «الجزيرة» عبرت الطفلة «فيروز»، إبنة الأسير محمد زغلول عن افتخارها بأبيها، وافتقادها لحضنه، رغم ولادتها وهو في السجن، ومنذ ذلك الحين وهي تتخيل احتضانه في ظل إجراءات وحشية يفرضها السجان على أمهات وأطفال الأسرى إذ يحرمهم من التواصل الجسدي فيزيدهم حنينا وحنانا، لتدرك مَن يعاني أكثر مِن هذا الحرمان: الذي يفرضه أم الذي يقاومه؟ من يتابع فيديوهات أبناء وبنات الأسرى المضربين بتحدي الملح والماء، يحس بقيمة الحضن من ملح أو من رماد كان، يبقى عندهم أول وآخر الأوطان!
أحلام والوقت الضائع في الكلاسيكو
بعيدا عن ميسي، الذي لا يبرع سوى في التهديف بعينيه فوق حائط المبكى، يظل الفريق الإسباني «برشلونة» عريقا بكل تاريخه الوطني والنضالي ضد الطغاة، لأنه ينتمي إلى إقليم الجمهوريين: «كتالونيا»، الذي خاض حربا نضالية ضد الحكومات المركزية في العاصمة، والتي ينتمي إليها فريق القوميين «مدريد»، من هنا تتجلى حقيقة الصراع السياسي، الذي تبلور إلى لعبة تنافسية ضمن نطاق أخلاقي تفرضه الروح الرياضية على أرض الملعب، دون أن تتخلى عن شحناتها الوطنية أو انتمائها السياسي، ولو وفاء لشهدائها الذين أعدمهم الديكتاتور فرانكو، الذي أصدر أوامره باستثناء عدد من لاعبي الفريق، وتوجيه رسائل تهديد مذلة لبرشلونة انتهت بفوز مدريد في مباراة الإياب عام 1943، تحت وطأة الترهيب، ليصرح حارس الفريق الاحتياطي حينها: «لقد ضمنوا عدم وجود منافسة، ولكنه ضمان تنتهي صلاحيته بنهاية المباراة»!
يغيب الأثر التاريخي لهذه البطولة في وعي المشاهد العربي، فالمسألة دعائية وترفيهية بحتة عند السواد الأعظم، ولا تحمل بعدا وطنيا ولو قيد أنملة، ولكن الثورة التي شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي بعد عرض أحلام لصورها على «انستغرام»، وهي تتابع النهائي الإسباني مع الرئيس الفلسطيني، تتعلق بالمواقف وليس بالأشخاص، وهو ما يجب أن يعبر بحد ذاته عن موقف جاد لسكان الكوكب الافتراضي، فلا يتحول إلى رياضة استعراضية، أو ماراثون رقمي لحصد «اللايكات»!
ثقافة «لعيبة الشدة» تنتشر الآن في الفيسبوك، وتويتر، وبعض المنابر الإعلامية، تماما كما هي بين الرؤوس الكبيرة، وكلهم يقعون في فخ الخلل بالأداء، مما يعطل القضية، فيخطف الأضواء من ساحة المعركة: السجون، ليسلطها على الفراغ أو على أحلام!
اللوبي الصهيوني يمنع فيلم مروان
تولت الجاليات الفلسطينية في أوروبا عرض فيلم «مروان البرغوثي» في لندن، الذي أنتجته وكالة «معا»، وقد كان من المفترض عرضه في أحد الفنادق، التي استضافت من قبل أكبر مؤتمر للأسرى في الغرب نظمته الجالية الفلسطينية في بريطانيا، دعت إليه والدي الأسير سامر العيساوي ومحمود السرسك وعيسى قراقع وقدورة فارس، وكان له صدى واسعا، غير أن ذات الفندق تراجع في اللحظات الأخير عن موافقته على عرض فيلم مروان، بسبب التهديدات، التي تلقاها من اللوبي الصهيوني، مما اضطر الجاليات لاختيار مكان بديل، والتقدم بعريضة احتجاج على سياسة الترهيب والتعتيم التي يتبعها اللوبي في الغرب!
في لندن، يحيي أحد الناشطين الإسرائيليين كل عام ذكرى مذبحة «دير ياسين»، مستضيفا عددا من الشخصيات الفنية الإبداعية الفلسطينية في الغرب، وقد تكفل قسيس كنيسة « Saint John’s Wood» في لندن، الأب Anders Bergquist باسـتضافة الإحيائية بعد أن رفضت مسارح عريقـة الترحيـب بها، رغـم ما تعرضـت كنيسـته إليـه من أضرار بالغة وتكسير نوافذ وتهديدات بالتصفية لم تثنه عن عزمه، ولم ولن تثني فلسطينيي المهجر، الذين لا يزالون في غربتهم قابضين على جمر العودة، والقضية، ومن دونهم لن يصل الصوت الفلسطيني إلى العالم، وسيظل خلف السجون وحيدا معزولا غريبا في وطنه ومنسيا بلا ذاكـرة!
عن القدس العربي