تغيرات متسارعة جداً تحيط الملف السوري بعد الهجوم الكيماوي على بلدة خان شيخون، الذي أعاد صياغة العلاقة الدولية تجاه هذا الملف، نحو استدعاء لازمة رحيل الرئيس السوري بشار الأسد عن السلطة شرطاً للحل السياسي.
هجوم خان شيخون وبعده القصف الجوي الأميركي على مطار الشعيرات في ريف حمص، رفعا من منسوب التشنج بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من جهة، وروسيا وحلفائها من جهة أخرى، إلى درجة أن المسار السياسي توقف، على الرغم من المحاولات الحثيثة لإعادة إطلاقه.
كان يفترض عقد جولة جديدة من مفاوضات جنيف قبل أيام، لكن لم يحدث ذلك نتيجةً لعوامل عدة، منها أن روسيا استخدمت الفيتو في وجه مشروع قرار يدين القوات الحكومية السورية على خلفية هجوم الكيماوي، إلى جانب قيام واشنطن بفرض عقوبات على مؤسسات سورية رسمية قيل إن لها علاقة بالهجوم المذكور.
التركيز الدولي ما عاد منصباً على إطلاق المسار السياسي، بقدر تركيزه على الجوانب الخلافية، إذ صدر تقرير عن المخابرات الفرنسية مفاده أن القوات الحكومية السورية استخدمت غاز السارين لقتل المدنيين، في الوقت الذي قال فيه وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون إن بلاده لن تعارض توجيه ضربات عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة الأميركية.
هذا التصعيد الخطير في الملف السوري له بعدان مهمان، الأول أن واشنطن التي تريد ممارسة لعبة شد الحبل مع روسيا فيما يخص سورية، تمارسه أيضاً في كوريا الشمالية، لأنها تدرك أن الصين وموسكو تقفان خلف بيونغ يانغ في تصعيدها العسكري مع واشنطن.
لم تعد واشنطن تقبل أن تسرح موسكو وتمرح في الملف السوري وتتصرف فيه بحرية مطلقة بالمجان، ولذلك فإن اللغة التصعيدية تتعلق بمصالح كبرى تستهدف إما تخفيف الضغط على الجبهة الكورية الشمالية، أو الحصول على ثمن جيد في سورية.
الحرب الكلامية بين الإدارة الأميركية وكوريا الشمالية بشأن اختبارات الأخيرة الصاروخية، تشي بأن حرباً ستقع لا محالة، لكن هذا التصعيد والتهديد والوعيد مرده إلى أن كل طرف يسعى لفرض حضوره والتأكيد على مصالحه، ولو أرخت واشنطن الحبل لبيونغ يانغ، فهذا يعني أنها لن تكون بمستوى تحدي روسيا في الملف السوري.
البعد الثاني يتصل بالخوف الإسرائيلي من الحضور الإيراني الدائم في سورية، ويفسر ذلك الضربات الجوية الإسرائيلية المتكررة لمواقع سورية، سواء لجهة إضعاف القوات الحكومية هناك، أو لجهة توصيل رسالة مفادها أن تل أبيب غير راضية عن الوجود الإيراني إلى جانب حزب الله.
يوم أمس استهدفت ضربات جوية إسرائيلية مستودعا عسكريا بالقرب من مطار دمشق الدولي، قيل إنه يورد أسلحة لحزب الله والقوات الحكومية السورية من قبل إيران، سبق ذلك تصريحات لوزير المخابرات الإسرائيلي كاتس قال فيها من واشنطن إن بلاده تسعى للتفاهم مع الإدارة الأميركية بشأن منع إيران من إقامة موطئ قدم عسكري دائم في سورية.
سيكون من الصعب الحديث عن مسار سياسي في ظل هذه الظروف المعقدة، خصوصاً وأن روسيا تشعر بأن الولايات المتحدة وحلفاءها يرون بأن الحل في سورية يأتي عبر رحيل الأسد عن السلطة، وهو الأمر الذي ترفضه موسكو جملةً وتفصيلاً.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي استهل ترؤسه للبلاد بالتأكيد على أن محاربة التنظيمات المتطرفة في سورية هي أولويته القصوى وأنه غير مهتم بموضوع رحيل الأسد عن السلطة، أعاد تكرار موقف سلفه أوباما من أهمية رحيل الرئيس السوري عن المشهد السياسي.
غير أنه من جديد قال إن مصير الأسد شأن يحدده السوريون، ويبدو أن تغيير موجة التصريحات من مستوى إلى آخر له علاقة بعملية الابتزاز السياسي، من أجل تعظيم أكبر مكاسب ممكنة في سورية، لا تتعلق بمصلحة واشنطن لوحدها وإنما مصلحة حلفائها أيضاً.
الآن يجري الحديث عن مساعٍ لعقد اجتماع "أستانة 4 " يومي الثالث والرابع من شهر أيار المقبل، بحضور الدول الضامنة لهذا الاجتماع روسيا وإيران وتركيا، وطرفي النزاع السوري، وليس بالضرورة أن يكون الإعلان عن هذا التاريخ بمثابة تأكيد على انعقاد الاجتماع.
كازاخستان التي تستضيف اجتماعات أستانة، ألمح وزير خارجيتها خيرت عبد الرحمنوف إلى أنه من الجيد لو جرى توسيع قائمة الدول المؤثرة في النزاع السوري، مثل بعض الدول العربية أو الاتحاد الأوروبي. وهذا الحديث يأتي انطلاقاً من قناعة داخلية لدى القيادة الكازاخستانية أن الدول الضامنة لأستانة، ربما كانت غير قادرة على المضي في تحريك العملية السياسية إلى حد الحديث عن اختراقات جيدة في المسار السياسي.
تركيا التي تقع على نقيض من روسيا وإيران في موضوع الملف السوري، أعادت طرح موضوع رحيل الأسد عن السلطة، ورئيسها رجب طيب أردوغان بعد الاستفتاء بتوسيع صلاحيات الرئيس وتحويل النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، جدّد موقفه من أنه لا يمكن الحديث عن حل سياسي في سورية طالما بقي الأسد في السلطة.
إذن، نحن أمام مساعٍ لتخريب وعرقلة العملية السياسية وليس إعادة إطلاقها من جديد، حتى لو جرى عقد أستانة 4 في موعدها، فإن الخلاف سيكون هو سيد المرحلة، هذا على فرض مجيء وفد المعارضة السورية إلى كازاخستان.
كل اللعب يجري الآن في صندوق النزاع العسكري، هذا الذي تريد له واشنطن وحلفاؤها أن ينزاح ويرجح نحو التوازن العسكري بين فريقي النزاع السوري، انطلاقاً من سياسة تستهدف ربط المسار السياسي بما يجري في مسرح النزاع العسكري.
وفي حين يبدو أن مسار جنيف أدسم من أستانة من حيث حضور الأطراف الفاعلة فيه، إلا أن سورية بحاجة إلى مسار سياسي أعمق وأكبر من هذين المسارين، مسار يجمع كافة الأطراف المؤثرة في النزاع السوري ولا يستثني أحداً.
لكن الموضوع لا يتعلق بإطلاق المسار السياسي، بقدر التأكيد على تغير فلسفة العمل في الملف السوري، والخروج من إطار سياسة تدوير الأزمة نحو حلها، فما نراه ونشاهده ونلمسه كل يوم، لا ينفك يخرج عن إطار إعادة توليد الأزمة.