في ظل التحولات الجيوسياسية والإقليمية يجب العودة لأحداث ومفرزات ما بعد 11 سبتمبر والمخططات المرتبطة بفكرة "الشرق الأوسط الجديد". يبدو جلياً أن هناك إعادة رسم للحدود واعادة تشكيل في الفكر السياسي في المنطقة، ويبرز سؤال جوهري هنا حول أهداف النضال الفلسطيني: هل يسعى الشعب الفلسطيني إلى دولة ضمن حدود 1967، أم أن الهدف الأساسي هو الحرية والاستقلال بصرف النظر عن الحدود؟
هذا التساؤل بحاجة لدراسة خاصة بعد التطورات الأخيرة في المنطقة، حيث نشهد تطبيقاً لسياسة أمريكية إسرائيلية تم تبنيها لخلق إسرائيل الكبرى في منطقة الشرق الأوسط. وتضمن هذه الرؤية توسيع حدود إسرائيل ليس فقط بضم الأرض في الضفة الغربية من خلال سياسة الاستيطان، ولكن من خلال تدمير الأنظمة السياسية أو الفواعل غير الرسمية في دول المنطقة (الحركات سواء معارضة او مقاومة) التي تدعم قيام دولة فلسطينية علئ حدود ١٩٦٧ بما يعني حدود واضحة لإسرائيل، وهذا ما لا تريده أمريكا وإسرائيل. لقد صوت العالم بأغلبية مطلقة لقيام دولة فلسطينية، وكان الرفض الأمريكي صريحاً وغير خجول، ولهذا علينا أن ندرك حقيقة أن ما يجري في المنطقة من شيطنة لحركات المقاومة أو سقوط أنظمة عربية متتالية، واتفاقيات أبراهام التطبيعية التقدمية، كلها تأتي ضمن استراتيجية الحرب بحجة القضاء على ما وسموه "محور الشر"، وشهدنا هذه السياسة في لبنان والعراق والسودان والصومال وليبيا والآن سوريا.
في إعادة تشكيل الفكر السياسي، يبرز منطق الواقعية السياسية التي تفيد بأن القضية الفلسطينية لم تكن يومًا مجرد قضية حدود أو جغرافيا، بل هي قضية تحرر وكرامة. الحدود التي تمثل خط الرابع من يونيو 1967، قد تكون مرجعًا سياسيًا للمفاوضات والحلول المقترحة الضامنة للحقوق، لكنها لا تختزل نضال الشعب الفلسطيني الذي يمتد إلى حقه التاريخي في تقرير المصير، والعودة إلى وطنه، والعيش بحرية وكرامة على أرضه. الدعوة لإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، تأتي في سياق السعي لحل سياسي اقترحه المجتمع الدولي لإنهاء الاحتلال، ووضع حد لمعاناة الشعب الفلسطيني. لكنها في الوقت ذاته، قد تُختزل أحيانًا كإطار ضيق لا يعالج جوهر القضية، فالحدود هي شرط للاعتراف بالدول وأداة لتحقيق الاستقلال، لكنها لا تعبر بالضرورة عن الغاية الأسمى المتمثلة في التحرر من كافة أشكال الاحتلال والاستيطان، واستعادة الحقوق التاريخية والسيادية للشعب الفلسطيني. إذا كانت الحدود هي الإطار، فإن الحرية والاستقلال هما الجوهر. الشعب الفلسطيني، كما أظهر التاريخ، يناضل من أجل استعادة حقوقه المغتصبة، سواء كانت هذه الحقوق في القدس، أو غزة، أو الضفة الغربية، أو في الشتات. التحرر يعني إنهاء الاحتلال بكل أشكاله، سواء كان استيطانيًا، أو عسكريًا، أو سياسيًا، وإقامة دولة ذات سيادة كاملة توفر لشعبها الكرامة والحرية دون قيود خارجية.
الحديث عن الشرق الأوسط الجديد يفرض تحديات إضافية، إذ يتم تسويق "الواقعية السياسية" كبديل عن التحرر الكامل، وطرح حلول اقتصادية أو جغرافية تُغيب الحقوق الوطنية. لكن الشعب الفلسطيني، بتاريخه الطويل من النضال، يدرك أن الحرية لا تُختزل بخطوط مرسومة على خرائط، وأن الحدود لن تكون ذات معنى إذا لم تُحقق الكرامة والسيادة الكاملة. الشعب الفلسطيني يدرك تماماً أن الحلول الاقتصادية أو الأمنية ورغم ضرورتها إلا أنها لا تحل مكان الحلول السياسية. إجابة هذا السؤال تكمن في إرادة الشعب الفلسطيني نفسه، وفي قدرته على التمسك بحقوقه المشروعة رغم كل التحديات. الهدف النهائي يجب أن يظل الحرية بكل معانيها: حرية الأرض، وحرية الإنسان، وحرية اتخاذ القرار بعيدًا عن أي ضغوط أو إملاءات. يعتقد هؤلاء أن الحدود قد تكون خطوة نحو تحقيق هذا الهدف، لكنها ليست النهاية، وهنا أؤكد أن استقرار الشرق الأوسط في خطر ما دامت حدود إسرائيل غير مرسومة.
الحرية والاستقلال، هما الأساس الذي يجب أن يُبنى عليه أي حديث عن مستقبل الدولة الفلسطينية. فهذا هو الخيار الذي يليق بشعب قدم التضحيات وواجه كل أشكال القمع ليبقى متمسكًا بحقوقه وهويته الوطنية. وفي هذه المعادلة الديالكتيكية لا نستطيع أن ننكر أن هذا الفكر الذي يقدم مبادئ الحرية الفردية على الحدود في نظام نيوليبرالي يخدم مشروع دولة إسرائيل الكبرى، وهذا ما نشهده تحت إطار الشرق الأوسط الجديد.
في ظل السياسات الإسرائيلية الرامية إلى فرض وقائع جديدة على الأرض، من القدس للجولان لتوسيع الاستيطان، ومحاولات إقامة "دولة غزة" المعزولة، وضم ما يسمونه "يهودا والسامرة"، يصبح السؤال أكثر إلحاحًا والذي يتبناه البراغماتيون، أنصار المدرسة الواقعية: هل يقبل الفلسطينيون بحلول تُقيّد تطلعاتهم في إطار حدود جغرافية ضيقة، أم يستمرون في نضالهم لتحقيق رؤية شاملة للتحرر والاستقلال؟