كيف نفهم ما يجري؟

أكرم عطا الله.jpg
حجم الخط

إلى أين ستصل الإجراءات التي تتخذها السلطة الوطنية لدفع حركة حماس للاستجابة لمطالبها؟ كل شيء يبدو أشبه بمغامرة، هل الأمر محسوب بهدوء أم ردة فعل فجائية؟ لا أحد يعرف ولا يعتقد أن هناك من بين الفلسطينيين يدعي معرفة ما الذي يحدث هل هو جزء من اتفاق إقليمي أم ردة فعل فجائية؟ الغريب أن أعضاء اللجنة المركزية للحزب الحاكم أيضا لا يعرفون، فقد كان لهم موقف منذ ثلاثة أسابيع فقط برفض إجراء خصومات الرواتب والآن باتوا يتحدثون دفاعا عنها وعن إجراءات جديدة.
أسئلة تحتشد وراء هذا التصادم المفاجئ نصفها للسلطة ونصفها الآخر لـ "حماس" اللتين أضاعتا عشر سنوات من الظلام في لعبة عابثة مبهمة إلى أبعد الحدود، فهل ما حصل قبل عقد مجرد مصادفة انقسامية تنم عن جهل سياسي وفقر في ادارة الاختلاف، أم أن الفلسطينيين تم استدراجهم إلى كمين محكم بكامل إرادتهم مستخدمين ما لديهم من قوة لتنفيذ مخطط الانقسام والفصل؟ أسئلة حائرة كثيرة تفرضها سوداوية اللحظة التي تخيم على قطاع غزة وخشيتها من القادم وخصوصاً حين يتبدى أن الحرب واحدا من سيناريوهاتها، خاصة أنها لُدغت من هذا الجحر ثلاث مرات.
للعارفين في السياسة يدركون أن في السياسة ليس هناك متسع للعواطف، فالحديث عن الكهرباء والمرضى وغير ذلك لا يعني كثيراً لمخططيها وأطراف الصراع فيها وخصوصاً في المنطقة العربية والشواهد كثيرة، ويعرفون أن زيت التاريخ هو الدم والدموع، وبالتالي فإن الأزمة الإنسانية الناشئة في قطاع غزة هي واحدة من السيناريوهات الطبيعية المتوقعة في الصراع بين السلطة التي أخليت بالقوة من قطاع غزة وبين حركة حماس التي سيطرت بالقوة على القطاع.
وما بين القوة والقوة هناك شعب وهناك ممكنات لدى كل طرف يجري استخدامُها دون اعتبار لما يتساقط على الأرض من دموع، والأزمة هنا أن هذه المنطقة الساحلية الفقيرة التي جرى الصراع فيها وعليها بين الأخوة الألداء وجدت نفسها في حالة غريبة معلقة في المنتصف، منطقة تابعة للسلطة وليست تابعة لها، تحكمها السلطة ولا تحكمها.. تتحكم بكل شيء فيها ولا تتحكم في شيء، لا هي محتلة ولا هي مستقلة .... تابعة لمن؟ شكلياً للسلطة الوطنية، عملياً يجري ملاحقة من يتبع فيها للسلطة.
الآن ....إفاقة مفاجئة للسلطة وكأنها تذكرت أن لديها من الإمكانيات ما يؤهلها للضغط على حركة حماس بما يشبه صرخة أرخميدس عندما قال "وجدتها" وهو يحل لغز المثلث، اكتشفت أنها كانت من ينفق على خصمها في غزة، لم يقل لها أحد ذلك سابقاً، فلماذا لم تستخدم أدوات الضغط هذه منذ بداية الانقسام، ألم يكن أولى أن تلوح على الأقل بما لديها حتى أثناء حوارات المصالحة؟ ففي المفاوضات عادة تستدعي الأطراف ما لديها من قوة، وهذه لم يتم استدعاؤها في كل الحوارات العابثة، لماذا الآن؟
هذا السؤال الذي يشغل الجميع دون أن يجد أحد إجابة، حالة من التوهان في فهم حركة التصادم الراهنة والقلقة تستدعي تساؤلات حول إجراءات السلطة تصل حد التشكيك فيها وفي مآلاتها، والخشية من أن تحصد نتائج معاكسة، إذ لم تكن المسألة قد تم إجراء حساباتها بهدوء شديد بعيداً عن الانفعال، لأن السؤال الحاضر دوماً عن الإسرائيلي كطرف يشكل أحد الفواعل الرئيسية في الحالة الفلسطينية ومشروعه الذي نعرفه جيداً، والقائم على فصل غزة، والذي كان واحداً من أهم السياسات الإسرائيلية لعقود ماضية سخرت الدولة العبرية ما لديها من إمكانيات عسكرية واقتصادية وأمنية لتحقيقه، وها هو قيد التحقيق، هل ستقف إسرائيل متفرجة أمام إعادة الوحدة بين الضفة وغزة؟
هل تم أخذ ذلك بعين الاعتبار لمخططي السياسة في السلطة الفلسطينية؟ وهل مراقبة السلوك الإسرائيلي تجاه الأزمة الراهنة يعكس حيادية كما تحاول إسرائيل القول، أم أن موقفها من الكهرباء يحمل ما ينذر بتحريض حركة حماس على عدم التجاوب مع مطالب السلطة وشروطها؟ وإذا كانت السلطة معنية بالعودة لغزة، ما علاقة ذلك بإقرار قانون التقاعد للعسكريين؟ والحديث يدور عن تقاعد عام للقوات العسكرية في قطاع غزة؟
تساؤلات كثيرة تخفي ألغازاً أكثر ما تفتح على إجابات وتزيد حالة الضباب القائمة، ولا أحد يمكن أن يفسر هل هذه الإجراءات محض فلسطينية دون ترتيب مسبق مع القوة الإقليمية والدولية، وستضيق الخيارات على حركة حماس لدفعها للتنازل، أم أن الأمر مخطط له جيداً، وهناك امتداد عربي ودولي سينتهي بنجاح السلطة في العودة لغزة. فإذا لم يكن الأمر محسوباً فإن خيار الانفصال النهائي هو السيناريو الذي سيتحقق، وهذا ما يجعل الخوف قائماً وهو العودة لسؤال: لماذا الآن؟
وبالمقابل فإن الأسئلة التي تلقى بوجه حركة حماس لماذا انتظرت كل هذه السنوات؟ ألم تكن تعرف كل مفاتيح غزة بيد السلطة في رام الله؟ ألم تكن تعرف سابقا أن رام الله هي المحرك الوحيد لاقتصاد غزة ولحياة غزة وهي مزود الكهرباء والماء والغاز والوقود والأدوية والتعليم والمعابر والمرضى، فهل حقاً لم تكن تعرف أن رام الله في اللحظة التي  تقرر اغلاق الصنبور ستجعل ظهرها للحائط؟ إذا لم تكن تعرف فتلك مشكلة تعبر عن فقر سياسي، وإذا كانت تعرف لماذا لم تستغل كل الفرص السابقة للتقدم إلى منتصف الطريق لتحقيق مصالحة كانت أوضاع حركة حماس أفضل كثيراً مثل اتفاق القاهرة أو اتفاق الدوحة، لماذا انتظرت حتى يتم حشرها؟
الحقيقة نحن أمام حالة من عدم الوضوح، لأن الفاعلين كثر وأقلهم فاعلية هم الفلسطينيون أنفسهم دون أن نخدع أنفسنا كثيرا بشعاراتنا، فالإسرائيلي بات يطرح نوعاً معيناً من العلاقة مع غزة سواء على معبر بيت حانون وتحويله لمعبر تجاري أو سكة حديد تربط، وهناك عدم استجابة من قبل حركة حماس لشروط السلطة التي لم تأتِ في ظروف حوار ومفاوضات وكذلك تقاعد قادم .. نذر أشياء مدعاة للتأمل، فإلى أين نحن ذاهبون؟ ومن الذي يعرف بدقة ..؟