بعد لقائه الرئيس محمود عباس، يكون الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد أحاط بكل جوانب الملف الفلسطيني، بعد أن التقى طرفيه، واستمع لهما، وبعد أن التقى أهم حلفائه الإقليميين في الشرق الأوسط، لكنه حتى الآن، باستثناء ما أبداه من تفاؤل بإمكانية التوصل إلى اتفاق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لم يتحدد بعد أي شيء ذي طابع عملي أو فعلي أو حتى واقعي.
لا نقصد بهذا القول بالطبع الحديث عن طابع الحل، الذي يعلن الرئيس الأميركي، ثقته بإمكانية تحقيقه، ولكن حتى ما يتعلق بطبيعة التفاوض بشأنه، ذلك أنه خلال لقائه الرئيس محمود عباس، أول من أمس، أشار إلى أن الجانب الأميركي يظل وسيطاً، حكماً، ومسهلاً للمفاوضات بين الجانبين، وقد كان هذا حال الإدارات الأميركية السابقة، لكن هذا لم يؤهلها إلى أن تنجز حلاً أو أن تقود الجانبين للتوصل إلى الحل المنشود.
وربما عدم إعلان البيت الأبيض موقفاً محدداً، أو واضحاً تجاه تصور الطرفين المختلف للحل، يجعلهما يثقان بعودة واشنطن للعب دور الوسيط بينهما، لكن ذلك سيكون إلى حين، فإلى أي مدى يستطيع الرئيس الأميركي الخامس والأربعون التهرب من اتخاذ الموقف المحدد، والذي لا بد من أن يعجب طرفاً ويغضب الطرف الآخر، أو ألا يرضيهما كليهما معاً.
حتى الآن، يمكن القول: إن أهم تعديل في الموقف الأميركي هو اختلاف موقف ترامب الرئيس عن موقف ترامب المرشح الرئاسي، فيما يخص نقل السفارة الأميركية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، وفيما يخص الاستيطان، كذلك عدم عودته مجدداً للحديث عن أن حل الدولتين ليس هو الخيار الوحيد، ثم كان اتصاله أولاً بالرئيس عباس، ثم لقاؤه إياه ضمن مسلسل لقاءاته مع قادة المنطقة، ما أثار الارتياح لدى القيادة الفلسطينية، لكنه في الوقت ذاته لم يثر حفيظة إسرائيل، ذلك أن نائب الرئيس الأميركي في الوقت ذاته كان يعلن قبل أيام _ وبمناسبة الاحتفال بإعلان «دولة إسرائيل» أن موضوع نقل السفارة ما زال قائماً.
سيأخذ _ بتقديرنا _ البيت الأبيض وقتاً طويلاً، بدراسة الملف، ما يعني أنه لن يرث مواقف الإدارات الأميركية السابقة من تفاصيله أو بنوده، كذلك ربما يجد البيت الأبيض أن أهم أمر يقوم به هو «جمع» الطرفين على طاولة التفاوض، وتركهما يقولان ما يريدان، دون أن يعلن هو موقفه أو رأيه في طبيعة الحل. المهم عند دونالد ترامب، أن يجمع حلفاءه في المنطقة لمواجهة استحقاقات الدخول الفعال في أكثر من ملف إقليمي، بل وحتى دولي.
ولأن إسرائيل باتت، حتى فيما يخص إطار التفاوض، لا تحبذ التفاوض مع الجانب الفلسطيني_ وهي بذلك تعود إلى الموقف الذي كان عليه الليكودي اليميني المتطرف إسحق شامير عشية عقد مدريد _ فإن المراقبين يعتقدون بأن واشنطن ستسعى لتوفير غطاء عربي للمفاوضات، بما يشجع إسرائيل على الدخول في عملية تفاوضية، دون شرط أن تكون في أطر حل الدولتين ولا حتى في إطار المبادرة العربية.
ومشاركة دول خليجية في مقدمتها السعودية يعني أن إسرائيل قد اقتربت من تدشين علاقات مجانية مع الدول العربية دون شرط الانسحاب من الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967، ودون شرط إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة مسبقاً.
ربما يكون ما يبديه البيت الأبيض _ الآن _ من حذر تجاه التفاصيل، ومن إصرار على إرسال إشارات التفاؤل وحسب، هو ما وجد نفسه فيه من ورطة نتيجة المواقف النارية التي أطلقها رئيسه إبان حملته الانتخابية، وربما يكون قدراً من الحنكة والذكاء السياسي.
على أي حال، تبقى بيد الرئيس ترامب ورقة كونه رئيساً جديداً، ما يعني أنه يمتلك قوة دفع خاصة، عليه استغلالها، لكننا، رغم هذا، لا نتوقع أن ينجح في أكثر من إطلاق مفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين الهدف منها، إغلاق الشقوق بين حلفائه المتعددين في المنطقة.
دونالد ترامب، سارع على الفور إلى الإعلان لكل العالم أنه مختلف عن باراك أوباما، فقام بإطلاق صواريخ توما هوك على مطار الشعيرات السوري، ثم إسقاط أم القنابل على أفغانستان، ثم وحيث أن الجميع اعتقد بأنه ذاهب للمواجهة مع إيران، ربما كثمن يقدمه لإسرائيل مقابل أن تدخل بمفاوضات مع الجانب الفلسطيني إرضاء لحلفائه العرب، وجد نفسه في مواجهة «ما فيها مزح» مع كوريا الشمالية، ليسارع الرئيس الذي يسعى لإظهار «العين الحمراء» لكل العالم، إلى القول: إنه يرحب جداً بلقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جيم أون!
برأينا، هذا هو بيت القصيد، أي أن دونالد ترامب، لا يفكر ولا يجد له مصلحة بفرض حل في الشرق الأوسط فيما يخص أصعب ملف، حاول أسلافه حله دون جدوى، رغم أن بعضهم _ بيل كلينتون _ قد بذل جهداً استثنائياً خلال ولايتيه، وباراك أوباما بذل جهداً كبيراً خلال ولايته الأولى، خاصة أن إسرائيل لم تعد راغبة بمتابعة المفاوضات، ولا بالتوصل إلى حل ثنائي، بقدر ما تفضل التوصل لحل بهدوء ومن جانب واحد وبناء على ترتيبات حثيثة تقوم بها.
لكن المهم له هو أن يعيد وجود أميركا القوي وفاعليتها في العالم، وأن يعيد هيبتها كأقوى دولة في العالم، الدولة التي تقود العالم منفردة منذ انتهاء الحرب الباردة قبل أكثر من ربع قرن، والتي اهتزت كثيراً، خاصة بعد التحدي الروسي في سورية وأوكرانيا، وليس هناك أفضل من الشرق الأوسط، ولا أسهل على واشنطن من حلفائها العرب لتحقيق هذا الأمر للولايات المتحدة.
فأميركا تواجه التحدي لزعامتها في كل مناطق العالم، إلا عند العرب، ليتقدم على طريق إعادة السيطرة على الكرة الأرضية.
الاختيار الصعب بين هاريس وترامب
24 أكتوبر 2024