يعرف مستهلكو السياسة، والأخبار، أن الرئيس الأميركي طالب اليابان بدفع المال مقابل الحماية. وقد سبق وطلب الأمر نفسه من الأوروبيين، كما طلب من العرب، وهم كما قال: «لا شيء لديهم سوى المال». وقبل أيام، تكلّم وزير خارجيته لموظفي الوزارة عن ضرورة الفصل بين القيم والسياسة. فشعار «أميركا أولاً» الذي أطلقه ترامب، كما قال تيلرسون، يعني فصل السياسة الخارجية للولايات المتحدة عن قيم كالحرية وحقوق الإنسان.
من الحماقة التفكير أن الأميركيين لم يفصلوا، قبل ترامب، بين السياسة والقيم. فقد فعلوا ذلك في أربعة أركان الأرض، ولكنهم لم يتكلموا بهذا القدر من الوضوح، بل وتذرعوا بالقيم لتبرير سياسات بعينها. ومع ذلك، لم يكونوا دائماً على هذا القدر من السوء، ففي مجرد إسقاط الذريعة ما يعني التحلل حتى من مانع الخجل. وبهذا المعنى لا يجوز تجاهل الفرق بين أميركا ما قبل ترامب وبعده.
على أي حال، المشكلة في طلب المال مقابل الحماية، وإسقاط العلاقة بين السياسة والقيم، أن ما ينجم عن الأمرين يُحوّل الأميركيين إلى قوّة للإيجار، ويتجلى في طلاق بيّن مع مرافعاتهم السياسية والأخلاقية بشأن الحربين العالميتين الأولى والثانية، والحرب الباردة. من غير الممكن رؤية الصورة كاملة، لأنها لم تكتمل بعد. هل نشهد، الآن، بداية تغيّرات جوهرية أدخلتها العولمة، والثورة التكنولوجية، على معنى ومبنى الإمبراطورية؟
وإذا كان ثمة من تشخيص محتمل لتحوّل كهذا، فإن فيه ما يدل على أزمة الإمبراطورية الأميركية. لا إمبراطورية بلا رسالة. هكذا كان الأمر على مدار قرون طويلة. وعلى الرغم من حقيقة أن الرسالة غالباً ما كانت قناعاً للسرقة، والجشع، وما تنجب القوّة من أوهام المجد، إلا أن وجودها (سواء وراء قناع القدر المُتجلي، أو عبء الرجل الأبيض) كان يضفي على مشروع صنّاعها قدراً من المشروعية السياسية والأخلاقية، ويمكنها من تجنيد وإقناع وكلاء محليين. فكيف يكون الحال، إذا لم تعد الإمبراطورية معنية حتى بالمشروعية السياسية والأخلاقية في نظر وكلائها وممثليها في أقاليم بعيدة؟
لأمر كهذا تداعيات خطيرة على مستقبل العالم. والواقع أن في ممانعة اليابانيين والأوروبيين، (والمكسيكيين الذين رفضوا تمويل جدار على حدودهم)، ما يعني وجود عقبات تعترض فساد وإفساد العالم. والمفارقة أن العالم العربي هو المكان الوحيد، الذي يصعب العثور فيه على أدنى قدر من الممانعة. وعلى الرغم مما في كلام ترامب عن عرب «لا شيء لديهم سوى المال» من صراحة مهينة، إلا أن هؤلاء تسابقوا على رشوته بالمزيد المال، على أمل الحماية. وهم شركاء في فساد وإفساد العالم.
وقد يقول قائل: أليست هذه حقيقة السياسة في كل زمان ومكان؟ وهل السياسة شيء غير فن الممكن؟ وهل يحكم العالم شيء غير المصالح؟ ألا يحق لنا التحالف، حتى مع الشيطان، لتحقيق مصالح متبادلة، وضمان الحماية؟
هذه أسئلة منطقية ومشروعة، ولكن التفكير فيها، على خلفية الاحتكام إلى قيم الحرية وحقوق الإنسان، يختلف، تماماً، عن التفكير فيها، في ظل إسقاط قيم كهذه من أسس وضوابط العلاقات الدولية. فالوزير الأميركي، القادم من عالم شركات النفط إلى السياسة، في معرض تثقيف موظفي وزارته، يقول لهم: «إذا اشترطنا على آخرين تبني قيم وصلنا إليها عبر تاريخ يخصنا فإن في هذا ما يحد من قدرتنا فعلاً على تحقيق مصالح أمننا القومي، ومصالحنا الاقتصادية».
وإذا فسّرنا هذا الكلام، بقدر أكبر من الصراحة، فمعناه أن الحرية وحقوق الإنسان ليست كونية، بل أميركية، تخص الأميركيين دون غيرهم. في مجرّد احتكار الحرية وحقوق الإنسان، وتجريدها من كونيتها، ما ينم عن عنصرية مُضمرة. وهذه ليست نهاية الأحزان. ففصل القيم (الأميركية) عن السياسة (الأميركية) ينقلب على مبادئ الرئيس ويلسون، قبل مائة عام، ولا ينتقص من قيم الحرية وحقوق الإنسان في أماكن مختلفة من العالم وحسب، بل ويهدد قيماً كهذه في بلاد تزعم أنها بلد المنشأ.
على طاولة الرئيس ترامب، مثلاً، مسوّدة قرار بشأن الحرية الدينية، ينتظر التوقيع، ويعزز دعوات تبنتها قوى ضغط مسيحية محافظة، ولم تتمكن من فرضها، في قوانين، على المجتمع، من قبل، ومنها ما يضع الجنس خارج الزواج في خانة الخطيئة الأخلاقية، ويحرم النساء من الحق في الإجهاض، ويلغي زواج المثليين. علاوة عليه، تريد القوى المعنية التخلّص من قانون يحظر على الجمعيات الدينية، المعفاة من الضرائب، دعم أو معارضة المرشحين السياسيين، ويهدد بحرمانها من الإعفاء إذا انتهكت الحظر. وهذا القانون، بالذات، هو ما تعهّد ترامب «بالتخلص منه وتدميره تماماً».
قد تبدو أشياء من نوع الجنس خارج الزواج، وزواج المثليين، وأعجوبة حرمان الجمعيات الدينية من حق الكلام في السياسة (تخيّل)، وكأنها من فصيلة الغول والعنقاء والخل الوفي، في نظر ما لا يحصى من العرب. ومع ذلك، في محاولة النيل من أشياء كهذه ما ينتقص من قيم الحرية وحقوق الإنسان، ويُمهّد لاستيلاء اليمين الديني، والقوميين البيض، على الولايات المتحدة. ولا أحد من هؤلاء وأولئك يؤمن بالحرية وحقوق الإنسان.
بمعنى آخر، في الفصل بين السياسة والقيم ما يتجاوز حكاية المصالح، والتحالف مع الشيطان، وفن الممكن، وحقيقة العالم. وفيه، أيضاً، ما يبرر القلق لا على مستقبل الحرية، وحقوق الإنسان، في أماكن مختلفة من العالم وحسب، بل وفي أميركا أيضاً. فما يبدو على السطح مجرّد أعراض أولية لمرض يقاومه الأوروبيون بدحر اليمين الديني والقومي، في الانتخابات، ويقاومه الأميركيون في المحاكم، والإعلام، والمظاهرات، ويُموّله العرب بالمليارات.