لأول مرة في تاريخها، يمكن القول: إن القيادة الفلسطينية قد تعاملت مع المتغير في الإدارة الأميركية بحنكة بالغة، فحتى منذ أن كان السيد دونالد ترامب مرشحاً رئاسياً، يطلق التصريحات النارية، التي أوحت بأنه سيغلق ما تبقى من أبواب في وجه السلطة الفلسطينية، لم «تتطير» القيادة الفلسطينية ولم تنفعل أو تتعامل بردة فعل، بل تعاملت بهدوء، تبيّن فيما بعد أنه كان «عين العقل»، فبعد أن منّى الإسرائيليون النفس بأن يحقق لهم ترامب كل ما عجز عن تحقيقه الرؤساء الأميركيون السابقون، فيكون ملكياً أكثر من الملك، أو بمعنى أوضح إسرائيلياً أكثر من كثير من الإسرائيليين، أي إسرائيلياً يمينياً متطرفاً، ها هي الأيام التي تلت انتخاب الرجل رئيساً للولايات المتحدة، تظهر عكس ما تمنوا وتوقعوا.
تدرك القيادة الفلسطينية أن السياسة مصالح، وأن ما يحكم السياسة الأميركية بالذات كونها براغماتية تماماً، هو مصالح الدولة، التي ورغم أن هناك قناعة متوارثة في السياسة الأميركية يغذيها باستمرار اللوبي الصهيوني، تقول بتطابق مصالح أميركا مع مصالح إسرائيل في الشرق الأوسط، إلا أنه في التفاصيل وفي تحولات الواقع اليومي يمكن تجاوز هذا الأمر، بالقول: إن داخل إسرائيل ذاتها هناك تباينات سياسية ومواقف مختلفة، كذلك فإن الشرق الأوسط فيه ملفات أخرى، والأهم أن الولايات المتحدة دولة عظمى، على إسرائيل أن تؤكد دائماً وباستمرار أنها بوجودها وسياساتها تخدم المصالح الأميركية وليس العكس.
لذا فإن القيادة الفلسطينية، متحررة من الأوهام الأخلاقية في السياسة، وتعلم أن عليها أن تقنع واشنطن بأن للولايات المتحدة مصلحة سياسية في وجود اللاعب الفلسطيني داخل ملعب الشرق الأوسط السياسي، بهذه الطريقة أو تلك، لا أن تقوم باستجداء ذلك الموقف تعاطفاً مع موقف دولي أو لاعتبارات غير قائمة أخلاقياً في السياسة.
أي أن تتحلى بالواقعية والعقلانية السياسية، وفي الحقيقة فإن هذا أهم ما يميز _ تاريخياً _ القيادة الفلسطينية الحالية، لذا فإنها تقوم بتوظيف هذه الميزة، حالياً، أفضل توظيف، خاصة وأن اللحظة تعتبر من أسوأ اللحظات التي مرت على الفلسطينيين خلال العقود الثلاثة الماضية، بعد مرور عشر سنوات على الانقسام الداخلي، بعد ولاية ثانية لباراك أوباما لم تشهد تقدماً فعلياً بالملف الفلسطيني / الإسرائيلي.
ولأن لأميركا / ترامب مصلحة في تجاوز الخلل في مكانتها بالشرقين الأوسط والأدنى، بعد ما حققته روسيا من اختراق وتقدم في أوكرانيا ثم في الملف السوري _ وللدلالة على ذلك نذكر أن أميركا عالجت كل التحولات في شرق أوروبا في عقد تسعينيات القرن الماضي، بما في ذلك التدخل العسكري في صربيا، ثم التدخل العسكري في العراق وأفغانستان وليبيا، دون أن يكون للروس أي رد فعل _ والتراجع في مكانة أميركا الذي قابله تقدم في الموقع الروسي، يعود للسياسة الخارجية في عهد أوباما، لذا سارع ترامب، وعلى الفور؛ بإطلاق الإشارات التي تقول إنه عازم على أن ينتهج طريقاً آخر.
وحتى يحقق مراده، فلا بد له من حلفاء إقليميين، حيث لا يمكنه أن يعتمد فقط على إسرائيل، وحيث إن حليفه الآخر، نقصد تركيا، بدأ يبتعد أو يخرج من الجيب الأميركي ويبحث عن مصالحه الخاصة، فقد عادت حاجة واشنطن لحليفها التقليدي العربي الرسمي.
وحتى تنجح في جمع أطراف هذا الحليف والأهم في بث الحيوية والطاقة في أوصاله، لا بد لها من أن تفعل شيئاً بخصوص الملف الفلسطيني، حيث إن واشنطن حتى الآن، أقنعت الجانب الفلسطيني بعدم عدائيتها أو تشددها تجاهه، كما أوحت بذلك التصريحات والشعارات الانتخابية.
يدرك إذَن الفلسطينيون أنهم أمام فرصة تاريخية لإطلاق آليات حل ملف الاحتلال مجدداً، لذا فإنهم تحركوا _ كما لو كانوا جوقة موسيقية متناغمة _ ربما دون تنسيق، أو توافق، وربما لاعتبارات خاصة لدى البعض، والأهم أنه دون حراك شعبي / جماهيري حاسم، لكن أن يطلق الأسرى العنان لمعركة كسر العظم مع السجان الإسرائيلي، ثم أن تتحرك القيادة الفلسطينية، كما النحلة السياسية لجمع العسل الفلسطيني من كل مكان يمكن أن يوجد فيه، فبعد واشنطن يقوم الرئيس بزيارة موسكو، بعد أن تنقل من عمان للقاهرة، ثم إلى الرياض، حيث يتم التحضير خلال أيام لقمة عربية / إسلامية مع ترامب، توطئة أو لتهيئة الأجواء لإطلاق مؤتمر إقليمي، في الوقت الذي تقوم فيه «حماس» بإعادة ترتيب أوضاعها الداخلية.
كل ذلك يشير إلى حراك كان مفقوداً خلال السنوات القليلة التي مضت، ومع اقتراب مناسبة الذكرى التاسعة والستين للنكبة، وتصاعد إضراب الكرامة، ومع الدخول بشهر رمضان، وفي حالة _ لا قدر الله _ أن سقط شهداء من مناضلي الإضراب، فإن شوارع الضفة والقطاع ستشتعل، بما يعني فتح آفاق لن تنغلق على إخماد جذوة التوق الفلسطيني للتحرر إلا بدحر الاحتلال.
هي لحظة حاسمة دون ريب، لذا فإنه حتى إجراءات السلطة تجاه غزة، جاءت للتأكيد على من لا يدرك أهمية وخطورة اللحظة، مثل الضربة على الرأس ليصحو من غفوته، وها هي تحرك ملف المصالحة _ لو إعلامياً على الأقل _ بعد أن أهمل حتى من برامج التداول الإعلامي، منذ أن أعلنت «حماس» تشكيل اللجنة الإدارية لإدارة قطاع غزة.
لذا لا بد من إطلاق كل الطاقات الفلسطينية، خاصة فصائل العمل الوطني والإسلامي، ويكفينا شعارات وادعاء وتآكل داخلي، فها هي سلطة «فتح» تجوب الدنيا وتقلّبها حجراً حجراً بحثاً عن طاقة الحرية، وها هم أسرى «فتح» يحملون أرواحهم على أكفهم ليتحرروا وليحرروا شعبهم دون انتظار أوهام صفقات التبادل، فماذا تنتظر «حماس» وأخواتها، لتلقي بالصراع على السلطة وراء ظهرها، وتنخرط في معترك الكفاح الوطني من أجل الحرية والاستقلال ودحر الاحتلال الإسرائيلي؟!