شعب الجبارين

صادق الشافعي.jpg
حجم الخط

للقائد الشهيد أبو عمار مقولات اقتربت من المأثورات.
كل تلك المقولات قامت على إيمان ديني ووطني لا يأتيه الباطل أو الشك من اي جانب، وكلها اشتركت في روح تفاؤلية حتى في أصعب الظروف والأوضاع، وبعضها حمل رؤية كالنبوءة أوضحها بمقولته الخاتمة « شهيدا .. شهيدا.. شهيدا».
مقولته «نحن شعب الجبارين»، وكان في الغالب يرفقها بالقول ان شعبنا اكبر من قيادته، هي الأكثر استحضاراً في هذه الأيام المجيدة.
يفرض حضورها ويجعله طاغياً التحام ومواكبة حراك شعبي جماهيري جامع، شامل، متواصل، منظم، وفاعل مع اضراب الأسرى البطولي عن الطعام.
يمكن القول انه لم يحصل في التاريخ المرصود ان تعرض شعب في الأرض لمثل ما تعرض له الشعب الفلسطيني:
- احتلال اقتلاعي إحلالي يطرد شعبا من ارضه ويّدعي امتلاكها بوعد رباني زائف.
- دعم لا محدود ودائم على العدوان من اكبر واقوى دولة في العالم.
 -  قبول واعتراف وتعامل من دول العالم النافذة يصل حد التواطؤ.
 - سكوت ولا فعل من غالبية دول وشعوب العالم ومؤسساته.
- خنوع واستكانة وخذلان من المحيط، ولا نقول اكثر من ذلك على بعضها.
-  ثم وايضا، خيبات من قوى وقيادات وممارسات من اهل الوطن نفسه....
ومع ذلك، لم ينكسر هذا الشعب ... ولن ينكسر:
- ما زال يتمسك بانتمائه الى وطنه الفلسطيني وهويته الوطنية، ويعلن ذلك عاليا وبكل فخر، سواء من موقع العيش فوق ارضه، او من موقع الإقامة في مخيمات اللجوء او
بلدان طلب الرزق او في اي ارض ومنفى في العالم.
- ما زال يرفض الاحتلال رفضا مبدئيا قاطعا، وما زال يقاومه بكل وسائل وأشكال المقاومة المتاحة.
- ما زال يتمسك بكل حقوقه وثوابته الوطنية وفي أولها حقه بالعودة الى وطنه وحقه في إقامة كيانه السياسي كامل السيادة على ارضه.
- وما زال يتمسك بالقدس أرضاً ومقدسات وعاصمة لكيانه السياسي.
-  ما زال قادرا وناجحا في الحفاظ على مجتمعه بكل مقوماته البشرية، وعلى تكريس والحفاظ على خصائصه المميزة.
-  ما زالت المرأة فيه أختاً للرجل وشريكة كاملة له. ما زالت ترضع طفلها حليب الوطن والوطنية والهوية والحقوق والنضال مع إرضاعه حليب التغذية والنمو، وما زالت تزور ابنها الاسير برأس مرفوعة وبلا دموع او انكسار، وما زالت تودع شهيدها بزغرودة الرضا والافتخار، تخبئ وتختزن في أعماقها حزنها المفري.
وما زال هذا الشعب مع كل ما تقدم وفوقه الكثير يبدع:
 ما زال يتعلم ويتفوق، ما زال يزرع ويفلح ما تبقى له من ارض، يبتكر ويخترع، يكتب أدبا معبراً وراقياً ويحصّل عليه الجوائز وينظم شعراً جميلاً وعميقاً في الوطن وكل نواحي الجمال والحياة، وما زال يرسم، ويعزف الموسيقى ويؤلفها، ويدبك ويرقص ويغني، وما زال يحب ويتزوج ويخلّف بنين وبنات بنّائين ومطورين، مقاومين، أسرى وشهداء.
هذا الشعب بالمحصلة والنتيجة وبعد 70 سنة من الاقتلاع والاحتلال والقهر بكل أشكاله، ما زال يعيش ويحيا وينتج ويبدع ويقاوم ويؤسر ويستشهد وينتقد ويرفض ويتظاهر ويعافر فوق ارض وطنه، او وهو يتجه بكليّته إليها أينما وجد، فما زال «على هذه الأرض ما يستحق الحياة.»
اي تردد أو وسوسة او ذرة شك او ضعف أمل او اهتزاز ثقة او بوادر خوف، وكلها تعبيرات إنسانية تصيب اي فلسطيني، كلها تنمحي لصالح تجذر الثقة والأمل والاطمئنان أمام صور صمود الأسرى وبطولاتهم في الأسر وأمام صور الحركة الجماهيرية العظيمة في شوارع وزواريب مدن الوطن وقراه ومخيماته وفي خيمات الاعتصام.
تنمحي تماماً، أمام صورة تلك الأم تحمل صور أولادها الأربعة الأسرى المضربين عن الطعام والمحكوم كل منهم بالمؤبد برأسها المرفوع وعينيها الجافتين من اي دمع والمشعة بالصبر والاعتزاز والإرادة، وهي تعلن انضمامها للإضراب عن الطعام مشاركة لأولادها وإخوتهم ورفاقهم.
تنمحي تماما، أمام صورة الأب المحرر بعد سنين قضاها بالأسر والمبعد عن قريته وعائلته وأهله ولا يعرف أحفاده الا بالصور، وهو يقول شعرا يدعو فيه أولاده الثلاثة الأسرى والمضربين الآن في سجون الاحتلال وإخوانهم للصبر والصمود والثقة بالنصر.
تنمحي تماما، أمام صورة قامات من رجال الدين مسلمين ومسيحيين وقامات من المناضلين والمناضلات الفلسطينيين  والعرب يعلنون الإضراب عن الطعام مشاركة للأسرى المضربين في سجون الاحتلال.
 تنمحي تماما، أمام صورة تلك الطفلة التي لم تتجاوز العاشرة من العمر وهي تلقي كل يوم في خيمة الاعتصام بحماس واقتدار شعراً أو نثراً جميلين تحية للأسرى وبطولاتهم.
تنمحي تماما أمام صورة كل المظاهرات والمسيرات والاعتصامات والفعاليات من كل نوع يبادر لها الناس في كل مكان.
انها بشارة مفرحة تفتح باب الأمل الواقعي لعودة حراك الجماهير وفعلها بعد ان غاب- او غيّب- وافتقدت فعله الحياة السياسية والنضالية كما افتقدت دبيبه وهديره ساحاتنا وشوارعنا.
هل كل هذا القول هو ركوب موجة عالية من التفاؤل ومجاملة للذات الوطنية؟
 فليكن، ما دمنا نعطي الفضل لأصحابه، الناس.
 أليس من الطبيعي ان نستقر دائما في اعلى موجات التفاؤل والثقة؟ الا يجب ان نبقى «محكومين بالأمل»؟  
مع القناعة الأكيدة ان كل ما تقدم حقيقي بمفرداته وإجماله.
وهل كل هذا القول يعمي عن رؤية ما فينا من عيوب وقصورات وخلافات ومنازعات وإخفاقات؟ أبداً، فكلها موجودة وحقيقية وجارحة. لكن هذا القول هو تفاؤل بالخروج منها عن الطريق الأكثر طبيعية وهو استعادة الجماهير وقواها الاجتماعية لحراكها وفعلها الآمر.
نعم...نحن شعب الجبارين.