«الدرب برم» ليلاً، وكان ذلك الدرب أنيساً مثل وجهي صباحاً في المرآة. ماذا لو نظرت في المرآة فلم أجد أنفي او فمي .. او على الأقل شاربيّ. هكذا، أحسست ان الدرب الأنيس صار موحشاً. أين ذهبت السروات السامقات؟ والتينة الهرمة شتاء، الصبية صيفاً؟
استأجرت بيتا في تلك القرية، لأنني أحببت الدرب الذي يوصلني من مفترق الدكان على الشارع الرئيسي الى مدخل العمارة.
منحنيات الدرب هي ذاتها، تقريباً، ولكنها صارت مثل ثوب العيد على جسم طفلة ذهبت في الزقاق الموحل في يوم شتاء عاصف.
البيوت القليلة، على جانبي الدرب، لا تزال في مكانها. لغير هذا اقشعرّ جلد جسدي. الريح الغربية تهب، قوية وباردة، ومختلطة برائحة مريبة كرائحة الضبع. كانت السروات الست السامقات، قد اتخذت وضع الجنود القتلى، الذين حصدتهم رشقة رشاش من كمين غادر للعدو.
هل رأيت كيف يسقط الجنود قتلى؟ الى جهة الشمال رأس جندي وقدم جندي، الى الجنوب ذراع جندي وبندقية جندي.
هكذا، سقطت السروات الست، الخضراء على مدار العام، قتيلة على جانبي الدرب، والتينة أيضا؟ عجوز عجفاء في الكوانين؛ وفي عز الصيف تغدو صبية كاعب ذات «نهود» كاعبة لا حصر لها.
يسقط الجنود على المتاريس لحظة الهجوم الضاري، ويسقطون في المتاريس ساعة الدفاع المستميت. وكانت السروات الست تتمترس، مثل جنود ذوي شجاعة متهورة، وراء ما يشبه المتاريس، وما نسميه «سناسل» او «جدران استنادية».
عاريا صار الدرب، ذات ليلة، من الجنود - السروات، وعارية صارت جوانبه من المتاريس - السناسل. أين ذهبت السعالي، السحالي، الحراذين.. وهذا الضب السريع، وحتى بعض الأفاعي، المجلجلة او الخرساء، والعقارب السوداء او الشقراء؟
جميعها دهمها الخراب وهي في السبات الشتوي. جرافة واحدة ذات أسنان شوكية، قتلت السروات - الجنود، وهدمت المتاريس - السناسل. عملياً، قتل بدم الحديد البارد.
تحت السروة السامقة أعلى من بقية السروات السامقات رصدتُ، ذات صيف، ثلاث حنونات حمراوات بقيت ساهرة، بعيونها الحمراء، حتى منتصف الصيف. في الربيع التالي لم تأت الحنونات المجتهدات الى «صفّ الربيع». قيل ان الشتاء لم يكن شتاء.. لا ماطراً ولا بارداً. عندما جاء شتاء ماطر وبارد، قلتُ: في نيسان المقبل ستصحو الحنونات الحمراوات من سباتها الشتوي (سواء اتفقنا مع إسرائيل على حل مرحلي أم لم نتفق).
«الدرب برم». السروات الست السامقات مرمية أرضا (كما يسقط الجنود الشجعان قتلى بصلية رشاش من كمين محكم). التينة العجوز اعتلّت صحتها الصيف الفائت، لأنها لم تأخذ جرعة باردة من عواصف الشتاء، فلم تطعمني .. حبّة تين واحدة كل صباح، التينة هي مثل عنقاء، تنهض من تحت الرماد. شتاء تبدو مثل مومياء. صيفا تبدو فاتنة شهية مثل «نفرتيتي».. يفضح ثوب اخضر كنوزها الشهية. بثلاث أصابع تقطف حبّة تين.. تبكي فطامها عن أمها بدموع بيضاء حليبية.
«الدرب برم»؟! لماذا برم الدرب؟ ثلاثة أمتار ونصف المتر تكفي لمرور السيارات بشيء قليل من الإزعاج.. إذا التقت سيارتان في اتجاهين متعاكسين.
برم الدرب، وتهدمت السناسل، وسقطت الصنوبرات قتلى، لأن الدرب يجب ان يصير اقل دلالا في منحنياته، ويجب ان يصير عريضا.. ويجب ان تأتي الجرافة بأسنانها الحديدية، لتهدم السناسل، وأوكار الزواحف، وتطيح بالسروات، وأوكار عصافير الدروب المذعورة.
عشرات، مئات من عصافير الدوري تبحث عن رزقها تحت أقدام السروات. اخبط الأرض بقدمي .. فإذا بها تفرّ مذعورة الى مخابئها الخضراء الكثيفة، لكل سروة عباءة خضراء مجلببة قادرة على إخفاء آلاف مؤلفة من عصافير الدوري.
ستحظى القرية بدرب جديد أوسع واكثر استقامة، وبجدران إسمنتية بلهاء بدل حجارة السناسل. ستبحث العصافير عن سروات بعيدة عن الدرب. ستجد الزواحف أوكارا جديدة لها. وأنا لن أجد دربا كنت احبه! «إكرام الميت في سرعة دفنه» وأما إكرام السروات القتيلة فهو في سرعة تقطيعها ورفعها بعيدا عن حافة «الشارع» الذي انتهك دلال «الدرب».
أعرف انهم سيتركون السروات القتيلة في مكانها شتاء بعد شتاء، وصيفا بعد صيف.. حتى تنخرها الديدان القارضة.
لم يعد الدرب درباً، صار الدرب مشروع شارع صغير. للعصافير أجنحة الى دروب أخرى، ولي أقدام ثقيلة. لي وجه في المرآة كل صباح.. وكل مساء. لم يعد ذلك الدرب مرآة روحي.