في إحدى البلدان العربية التي كان يسمح فيها بقدر ما من المعارضة السياسية، اتصل سياسيٌ بشخص لا يربطه به كثير من الود، بل العكس. وتحدث هذا السياسي بقسوة ضد الحكومة، وتوعدها قليلاً. حاول الشخص الآخر أن يسأله لماذا يسمعه هو هذا الكلام، فقال له دعني أكمل. وعند نهاية الحديث، قال هذا السياسي "إلى المكلف بمراقبة هاتفي قم بإيصال تسجيل المكالمة للمسؤولين عنك، بسرعة، وإذا لم تتمكن من التسجيل، قم بالرن علي ولا تتحدث، فأعيد الحديث".
رغم أنّه محامٍ وقابل مئات الأسرى، في المعتقلات الصهيونية، فقد كان خائفاً هذا الأسبوع، وهو يذهب للقاء موكله المضرب عن الطعام. لم يره من أمد، ومضى على إضرابه 28 يوماً، كيف سيكون؟.
جنديان يحيطان به، القيود في يديه وقدمه، وجسده ناحل، وفقد نحو 11 كغم حتى الآن.
أطلق الأسير مفاجأة أذهلت المحامي وقلبت الصورة رأساً على عقب. كانت المفاجأة هي ابتسامة طافحة بالبشر والثقة والسكينة. قالت نيابة عنه:" كم "أنا قوي"!.
جلس أمامه، أخرج من أذنيه قطعاً من المناديل الورقية، شرح لهُ أمرين يتعلقان بالسمع. أولهما، أنهم يعذبونني بتسليط أصوات مزعجة على مدار الساعة ليزداد إرهاقي، الأمر الثاني، انّ كل ما نقوله مرصود ويعرفونه، ولكن لا تخشَ شيئاً قل ما عندك. (بينهما شباك زجاجي يتحدثان عبره بهاتف). إذاً فقد حدد الأسير القواعد، "لا أخاف منكم.. وسأوصلكم رسالتي بكل الطرق"، كما هم كل الأحرار في العالم لا يبالون.
زنزانتي أشبه بقبر. مظلمة، تسرح الحشرات فيها طوال الوقت، لا يسمح لي سوى بالملابس التي تسترني. لا يسمح لي بتغييرها، لذا أقوم بغسلها وإعادة ارتدائها، وأفعل هذا يومياً، لتمضية الوقت. لدي بطانية واحدة فقط لا غير. لا كتب، ولا حتى القرآن. لا شيء في الغرفة، رغم ذلك يفتشونني تفتيشاً عارياً تامّا أريع مرات يومياً.
رفض أن يسمع عن الذين عجزوا أو رفضوا الفعل، في الخارج، ووجه سمعه وحديثه عن من يساندون الأسرى.
لمدة 28 يوماً لم يسمع، ولم يشاهد، ولم يعرف ماذا يحصل في الخارج.
ربما أنّ ابتسامته هي في جزء منها شعور بالألفة والنصر وأنّه أخيرا يرى أحدهم، سوى السجّان المكلف بالتعذيب.
ربما هو سعيد لأنّه أخيراً سيعرف ماذا يحدث في الخارج.
أن يمضي 28 يوماً ويستمر في الإضراب دون أن يعرف كيف يتفاعل العالم معه، ويأتي مبتسماً، فهذا دليل إيمانه اللامتناهي بشعبه، وبمن معه، وبمن يتقدمهم.
لا يمكن أن تكون قائداً إلا إذا آمنتَ بشعبك وآمن بك.
رغم سوء الزنزانة، حاولوا وضعي في زنزانة أسوأ تحت الأرض، فأضربتُ عن شرب الماء أيضاً، حتى خرجت.
ربما يفكر: أنا من بلد يوسف الذي رموه في الجب وخرج. وأنا أعرف سبسطيا وما يزال الجب الذي سجن فيه النبي يحيى، أو هكذا يعتقد هناك. وأنا "من هذه المدينة".. من هذه البلاد، هُم أسلافي وأنا خلَفَهُم، وسيأتي من يخلفني.
ليسَ مُستعَجلاً. يبدو أنّه يخطط لأسابيع. يريد أن تمتزج نشاطات ذكرى النكبة في 15 آيار (مايو) مع نشاط الأسرى، ولكنه لا يدعو للعصيان المدني إلا مع ذكرى احتلال الضفة الغربية الخمسين (نكسة 5 حزيران (يونيو)).
ليس ُمستعجلا: ومن قال أني أريد مفاوضات، حتى يدّعوا أنهم لن يفاوضوني، هناك فقط طريقة واحدة؛ أن تأتي مطالبنا وقد وقّعوها، ثم نتحدث.
يرفض تماماً فكرة وجود من يريد مناشدة الأسرى الذين لم يدخلوا الإضراب، ليدخلوه. ليس غضباً أو استياء، بل محبة وتفهماً أنّه لا يمكن للجميع أن يدخل هذه الحلبة، دون ان يقلل هذا من تقديره لشجاعتهم وعدالة قضيتهم. ليست الخطوة بالسهلة، ومعه أكثر من ألف أسير يخوضون المعركة، وهو لا يمانع أن يواصل للنهاية، حتى لو لم يعد معه أحد. هو يحبهم، لذلك يناقشهم ويقترح عليهم، ولكنه لا يصل بالقسوة حتى درجة مناشدتهم بالانضمام إليه. فالرائد يسعد بمن ينضم له، ويشعر بقوته معهم، ولا يبالي إنّ دفع ثمناً من حياته لأجل حياة كريمة حرة ولأجلهم ولأجل الآخرين.
ويبقى السؤال عند من هم في الخارج.. ماذا بعد؟
عن الغد الأردنية