زيارة الرئيس الامريكي دونالد ترامب للمنطقة مرشحة لأن تتسبب بتطورات على مجمل القضايا المتفجرة في المنطقة، حديثها الذي يزداد لهب نيرانه، وقديمها: قضية شعبنا الفلسطيني، التي ما زالت جمرتها متقدة منذ سبعة عقود، وباقية على ما هي عليه الى ان تصل الى حل عادل يضمن لشعبنا حقوقه الشرعية. والسؤال الذي يهمنا اكثر من أي سؤال آخر هو: ما هي صورة الوضع في اسرائيل التي تستعد هذه الايام لاستقباله.
حجم الارتباك في اسرائيل، استعدادا لهذه الزيارة يوم الاثنين المقبل، لا يعادله الا حجم احتفالها المهول، السابق لأوانه، كما توقعنا منذ البداية، بفوزه بالرئاسة الامريكية.
هذا الارتباك ترافقه وتزيد من حدته مشاعر شكوك وتخوّفات ظاهرة للعيان في تصرفات وتصريحات وردود افعال رئيس الحكومة الاسرائيلية، بنيامين نتنياهو، ومكتبه وطاقمه، كما في وسائل الاعلام الاسرائيلية كافة. ولهذا الارتباك وهذه الشكوك والتخوفات ما يسوِّغها ويبرّرها:
ـ كانت اسرائيل تتمنى ان ترسل الادارة الامريكية الجديدة اشارة تضامن واضحة مع اسرائيل، بجعلها المحطة الاولى لاول جولة خارجية لترامب، أما ان تجيء زيارة اسرائيل في سياق زيارة للمنطقة تبدأ بدولة عربية هي السعودية، وتتخللها قمم امريكية سعودية، وامريكية خليجية، وامريكية عربية واسلامية، فذلك ما يجعل اسرائيل قلقة، واكثر من قلقة ايضا، على مكانتها وعلى دورها في المنطقة، وعلى نظرة الادارة الامريكية الجديدة لها.
ـ اراد نتنياهو ان يكون استقبال الرئيس الامريكي في مطار بن غوريون/تل ابيب/ اللد استعراضيا، تتخلله كلمات متبادلة ومؤتمر صحافي، فرفض الضيف الامريكي، واصر على استقبال متواضع للغاية، حتى ليكاد يقتصر على الضيف وزوجته ورئيسي دولة وحكومة اسرائيل وزوجتيهما.
ـ اراد نتنياهو ان تنظم اسرائيل، او ان تشارك على الاقل، في تنظيم زيارة ترامب الى حائط البُراق/المبكى/الجدار الغربي للحرم والمسجد الاقصى في القدس، فكان الرد الامريكي حاسما: «لا علاقة لكم بذلك، فهذا الموقع الديني لا يخضع للسيادة الاسرائيلية، انه جزء من ارض الضفة الغربية». وقامت قيامة اسرائيل ولم تقعد بعد، لكنها اضطرت بالطبع للرضوخ لقرار الرئيس الذي لا تستطيع رفض تلبية أي طلب بل اي تلميح منه.
ـ ثم ارادت اسرائيل ان يرافق نتنياهو ترامب في زيارته للحائط، فرفض الجانب الامريكي ذلك، بتأكيد ذريعة ان هذه الزيارة شخصية وخاصة. واراد قسم البروتوكول في اسرائيل، ان تغطي سلطة الاعلام الحكومية الاسرائيلية زيارة ذلك الموقع الديني، فرفض الجانب الامريكي ذلك لنفس السبب الذي اوردوه سابقا.
ـ اراد نتنياهو ان يرافق الرئيس الامريكي ترامب في زيارته لمسّادا، (قلعة تاريخية فوق وغرب الشاطئ الغربي للبحر الميّت، نسج الاسرائيليون، (بمبادرة من «مؤرخ» اسرائيلي، هو مندوب سابق لاسرائيل في الامم المتحدة، ووالد زعيم «المعارضة» (!!!) في الكنيست (البرلمان) الاسرائيلي حاليا، اسحق هيرتسوغ)، اسطورة صهيونية حولها، (ولا اتحدث هنا عن اسطورة يهودية دينية) تتحدث عن تفضيل وعن تنفيذ قرار انتحار جماعي، للمقاومين اليهود فيها، على الاستسلام لقوات الامبراطورية الرومانية. كما طلب المنظمون الاسرائيليون للزيارة ان تتضمن خطابا لنتنياهو بحضور ترامب. بداية جاء رفض امريكي واضح لمشاركة نتنياهو في مجريات وخطابات تلك الزيارة. ثم لحق ذلك الغاء كامل لزيارة تلك القلعة بذريعة احتمال تعرض المنطقة لدرجة حرارة مرتفعة،(علما بان الارصاد الجوية توقعت درجة حرارة بحدود 25 درجة مئوية، وهي درجة حرارة معتدلة نسبيا)، وتم استبدالها بزيارة لـ»متحف اسرائيل»، حيث يلقي الرئيس الامريكي خطابه هناك، على ان يُسمح لنتنياهو بتحية الرئيس الامريكي وتقديمه فقط.
ليست هذه قضايا شكلية فاقدة للوزن والاهمية. فهي، في اللغة الديبلوماسية، رسائل واضحة الدلالات والمعاني، موجهة لعناوين معروفة ومحددة. فهمت اسرائيل محتوياتها ومراميها وما تسعى اليه، فكان شبه اجماع في وسائل الاعلام الاسرائيلية، على استخدام تعابير من مثل «نتنياهو يتصبب عَرَقاً» وهو يتابع بذهول ويستوعب تماما ابعاد ما في الرسائل الامريكية المبطنة، دون ان يتجرّأ حتى على ابداء اعتراضه او امتعاضه.
لا تستطيع اسرائيل تحمل كلفة أي مواجهة مع ادارة ترامب، ليس لأنه «ناري الطباع» فقط. فالسياسة التي اعتمدها نتنياهو واركان حكومته اليمينية العنصرية، في مواجهة الرئيس الامريكي السابق باراك اوباما وادارته، وخاصة في فترة رئاسته الثانية، وما تخللها من استعلاء واستهتار، ادت الى خسارة اسرائيل للتأييد التلقائي الجارف، لقيادات وجماهير الحزب الديمقراطي الامريكي. وبعد ان كانت اسرائيل تتمتع بتسابق الحزبين الامريكيين، الديمقراطي والجمهوري، على دعم اسرائيل عسكريا واقتصاديا وسياسيا ، منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي، رغم كل تجاوزاتها للشرعية الدولية، واستهتارها بقرارات تلك الشرعية وعدم تنفيذها لاي منها، فانها تجد نفسها اليوم مضطرة على الاكتفاء بدعم ومساندة جانب امريكي واحد، هو الحزب الجمهوري، بل والاكثر تطرفا فيه فقط.
لكن ما يزيد في حدة المأزق الاسرائيلي، هو ان ترامب ليس شديد الارتباط بقواعد الحزب الجمهوري، اضافة الى ان السلاح الصهيوني الأمضى في كل الانتخابات الامريكية، وهو الدعم المالي للمرشحين، يفقد مفعوله تماما عندما يكون المرشح مليارديرا مثل ترامب، تحميه امكاناته المالية من الإرتهان الى الدعم المالي الصهيوني، واشتراطاته لحماية اسرائيل ومساندتها في كل سياساتها.
ساكن البيت الابيض الجديد ليس اوباما، وليس على شاكلته. الساكن الجديد عصبي المزاج. حاد الطبع. غير مرتهن لاحد. لا تحدد خطاه الا مصلحته الشخصية، وما يراه مصلحة للاقتصاد الامريكي، وللدور القيادي الامريكي في العالم.
لكن ساكن البيت الابيض ليس محصنا بشكل مطلق. ففي نظام الحكم الامريكي ضوابط وقواعد تصرف، وفيه قدرة على مساءلة سيد البيت، بل، وفي بعض الاحيان، اخضاعه للتحقيق وتنحيته، كما حصل للرئيس ريتشارد نيكسون، وتوجيه الاتهامات اليه ودفعه قريبا جدا من عتبة قاعة المحكمة، كما حصل للرئيس بل كلينتون.
لا علامات، لغاية الآن، على احتمال خضوع ترامب او تردده في مواجهة الحملة المكثفة من التطورات «المنغِّصة» داخل اروقة البيت الابيض وفي محيطه، ومن ابرزها قضايا «تسريب» ترامب لمعلومات اسرائيلية من جاسوس لها في صفوف «داعش» الى وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، وما في ذلك التسريب من مخاطر. وفي حين انبرى وزير الخارجية الامريكي، ومستشار الامن القومي بنفي «مُمَغمغ» لواقعة التسريب، بادر الرئيس ترامب في اليوم التالي الى الاعلان، بصراحة ووضوح، انه ابلغ لافروف بتلك المعلومات السرية، و»هذا حقي كرئيس»، والهدف انساني لحماية الارواح، ولدفع روسيا الى التحرك والعمل بجدية اكبر ضد داعش. هذه الشخصية التي يتمتع بها ترامب، تجعل نتنياهو «يتصبب عرقا» بانتظار ما سيقرره، وما سيقوله، وما قد يكتفي بالتلميح اليه. آن الاوان لاسرائيل ان تنتحب على رحيل اوباما.
عن القدس العربي