الفلسطينيون والإسرائيليون... وفقدان الشراكة السياسية

1_987663_1_23.jpg
حجم الخط

 

من المفارقات الخاصة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي بعد اكثر من ستين عاما،ان مستوى العنف والكراهية والرفض وعدم القبول والإستعداد للوصول لحلول وسط تاريخية تتسع لدرجة بات معها هذا الصراع بعيدا عن الحل السلمي.

هذا يتطلب مراجعة لكل الخيارات والمناهج التي أتبعت لبناء سلام مستدام ليحل محل الصراع أساسه او هدفه الإستراتيجي المصالحة التاريخية الشاملة. في الوقت الذي تتسع فيه دائرة الصراع، تبذل المحاولات للوصول لصيغ للتعايش بعضها موجود فعلا ولو على المستوى الفردي او الجزئي ، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها، من فرضية أساسية انه لا يوجد شعب في العالم يمكن ان يعيش في حالة من الصراع والحرب والخوف إلى أن تقوم القيامة ، فالواجب الإنساني يفرض البحث عن هذه الصيغ التعايشية بين الشعبين الفلسطيني واليهودي.

ولا يمكن أيضا لشعب ان يعيش تحت الإحتلال إلى الأبد.

ولا شك أن هناك أبعاد كثيرة تقف وراء ديمومة هذا الصراع منها البعد السيكولوجي ، وسيطرة وغلبة توجهات الخوف على توجهات الأمل، ومن ناحية فشل او عدم إكتمال عملية السلام بمراحلها الثلاث صنع السلام وحفظ السلام وبناء السلام المستدام ، وصولا للمصالحة الكلية رغم ان أوسلو تشكل لحظة فارقة للواقعية ونموذجا سياسيا للعلاقة بين الرئيس عرفات واسحق رابين، يختلف عن النموذج السياسي للرئيس محمود عباس ونتنياهو.

النموذج الأول يقدم نموذجا للشراكة السياسية لو إستمر لحقق تحولا في عملية بناء السلام. فكلاهما إقتنع ان هناك حاجة لعملية سلام مبكرة، والقناعة بعدم جدوى الرفض الأيدولوجي المطلق، وادركا أنهما في حاجة كل منهما للآخر للوصول إلى إتفاق، ولم تحل الأيدولوجيا المغلقة او تردعهما عن الوصول لحلول وسط ضرورية طالما ان مصالحهما العليا لم تمس ، بل يمكن الإعتراف بها ولو ضمنيا. المهم كان الوصول لإتفاق يمكن البناء عليه، والقفز منه لعملية حفظ السلام وبناء سلام مستدام.

هذا الهدف بلا شك تحقق ولو جزئيا، بفضل الواقعية السياسية الجديد، ونموذج الشراكة السياسية التي بناها كل منهما، وخلق علاقات شخصية ضرورية لعدم إتخاذ قرارات وسياسات محرجة أو مجهضة للتقدم في عملية السلام والشراكة السياسية. ولقد نجح الرئيس عرفات ورابين في بناء شراكة سياسية كانت أساس للوصول لإتفاق مقبولا من الطرفين، والقبول بالإتفاق كان أساسه ليس الإتفاق كغاية في حد ذاته، بقدر ما يشكل مرحلة يتم التغلب فيها على بعض الأبعاد السيكولوجية للصراع مثل إنعدام الثقة وعدم القبول بالأخر. ولذلك من اهم الإنجازات التي لم يتم البناء عليها وتوسيعها خلق درجة من الثقة على مستوى القيادة السياسية فلسطينيا وإسرائيليا والقبول بالوجود لكل منهما .

ولا شك ان الرئيس عرفات ورابين إتخذا قرارات سياسية جريئة ، وفيها قدر من المغامرة دفع الإثنان حياتهما ثمنا لها، ورغم غموض الإتفاق الذي كان مقصودا ، كل طرف فسر الإتفاق بما لا يتعارض مع رؤيته لمصالحه العليا، والحرص على الحفاظ على قنوات التواصل السياسي المباشر، التي وصلت إلى درجة العلاقات العائلية. فرابين رأى انه غير ملزم بالإعلان عن الدولة الفلسطينية ، ويكفي الإعتراف بمنظمة التحرير، والرئيس عرفات كان يدرك انه في النهاية حلم الدولة سيتحقق، ولذلك شرع في التأسيس لبنية الدولة الفلسطينية. ولقناعتهما للحاجة المتبادلة لصنع السلام أسسا نموذجا للشراكة السياسية، وبقيت هذه الشراكة محصورة ومقيدة برغبة كل منهما بالوصول لما يريد في الحل النهائي. وتفهم كل منهما الحفاظ على روح أوسلو رغم غموضها، لكن روح أوسلو تمثل :في الرغبة في الوصول إلى تسويات تاريخية وبناء سلام يحل محل الصراع والكراهية والقتل والرفض.

لم تكن اوسلو غاية ولا هدفا بقدر ما كانت كسراً لجدران الرفض العازل بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ورغم كل السياسات التي قد أعاقت الإسراع في عملية بناء السلام، لكن بقيت الشراكة السياسية قيدا على عدم إتخاذ خطوات مجهضة لهذه الرغبة . وإنعكست في مزيد من الثقة والإستجابة على مستوى القيادتين .

ولعل الخطأ الذي وقعا فيه انهما لم يترجما هذه الشراكة إلى المستوى العام، والمستوى الشعبي بتفعيل الخيارات الشعبية ، وإن بدت بعضها لكنها كانت محدودة غير مؤثرة.

هذا النموذج لم يكتب له الإستمرار بالتخلص من كليهما لتنتهي حياتهما بالقتل. ولعل الضربة التي اجهضت الإستمرار في عملية بناء السلام ، وهذا النموذج من الشراكة ، انه لم يطبق على العلاقة بين الرئيس عباس ونتانياهو الذي حرص على إفشال هذا النموذج. ولم يكن هدفه ألإستراتيجي العمل على إنهاء الصراع بقبول الحلول الوسط بالإعتراف المتبادل، والعمل على تفعيل النموذج السابق. فهو لم يقبل بأوسلو بكل سلبياتها، بل عمل على إسقاطها وتفسيرها من منظور امني بحت، ولم يقبل بفكرة حل الدولتين. ورفض فكرة تسليم أي أراض جديدة للفلسطينيين، وكثف من بناء الإستيطان في ألأراضي المخصصة للدولة الفلسطينية مما أجهض أي إمكانية لهذا الحل. ولم يظهر أي رغبة في الشراكة السياسية التي أسس لها عرفات رابين.

وأتخذ خطوات ممنهجة ومدروسة لإفشال حل الدولتين، ولم يبد أي رغبة في تعميق علاقات التواصل مع الرئيس عباس، بل ذهب بعيدا بالإدعاء بعدم وجود شريك سياسي فلسطيني ، واتهم السلطة دائما بالتحريض وتبني سياسات داعمة وحاضنة للكراهية ضد اليهود، ودائما يركز على البعد الديني الذي يؤجج الصراع، ومن شأن هذه السياسات أن تعمق من فجوة عدم الثقة ليس فقط على مستوى القيادة بل على المستوى الشعبي.

ومما عمق من إنهيار نموذج الشراكة السياسة تنامي الحركات المتشددة على الجانبين والتي تتمسك بالمطالب المطلقة التي تقوم على الرفض الكلي للآخر,وعلى مدار سنوات طويلة توقفت المفاوضات بين الطرفين ، وتوقفت اي إتصالات على مستوى القيادة، مما عمق من صعوبة الوصول لعملية سلام حقيقية ، وواكب ذلك غياب مظاهر وأشكال التواصل الشعبي او ما يعرف بخيار الشعب للشعب، وذلك من خلال تنشيط مظاهر الإلتقاء على مستوى شرائح المجتمع.

ويعترف نتانياهو فقط بشكل من الحكم الذاتي في كل من غزة والضفة الغربية ، لكن الحقيقة التي لم يستطع تجاهلها وتفرض نفسها كحقيقة سياسية لدفع عملية السلام التواجد السياسي للشعب الفلسطيني ، والتواجد الإقليمي للسلطة ودوليا، وإنتزاع إعتراف دولي متزايد بالدولة الفلسطينية.

والإشكالية الكبرى ورغم هذه الحقائق لا يقبل نتانياهو بمبدأ الشراكة السياسية مع الفلسطينيين ويتعامل مع اوسلو وكل الإتفاقات الموقعة مع السلطة من منظور قانوني بحت.

ولقد إستبدل مفهوم التبادلية محل مفهوم الشراكة السياسية ، إلا ان مفهوم التبادلية يعني المساواة بين طرفين في الحقوق والإلتزامات، وهذا غير قائم، فإسرائيل تنظر للفلسطينيين كمجرد كتلة سكانية لها مطالب إقتصادية وحياتية فقط، وليس كشعب له حقوقه السياسية.

ولإحياء عملية السلام لا بد من مراجعة كل السلبيات والمعيقات التي اعاقت وأحهضت عملية السلام، وإعادة النظر في الخطوات التي يمكن من خلالها إعادة بناء نموذج جديد للشراكة السياسية ، والتركيز على إحياء خطوات بناء الثقة بين الطرفين وعلى المستوى العام، والعمل على بلورة وصياغة معاهدة سلام واضحة الإلتزامات والأهداف، وتخاطب الحاجات القومية المتبادلة للطرفين. والعمل على تجاوز خيارات أوسلو التي لم تعد صالحة ، وان احياء عملية السلام يتوقف على إلتزام نهائي من الطرفين يخاطب الحاجات والأمال القومية لكل منهما.

ولنجاح الوصول لمثل هذا إلإتفاق لا بد للدور الأمريكي أن يتحرر من كل الإنحيازات السابقة، وأن ينظر برؤية شمولية وكلية للصراع، وبدون إلتزام بدولة فلسطينية تحقق الحاجات القومية للفلسطينيين من الصعب الوصول إلى شراكة سياسية وإستئناف لسلام ينتهي بسلام مستدام يقود لمصالحة تاريخية شاملة.