الأميركيون (خلافاً لما هو شائع) شعب متدين ويقدّس القيم الدينية، ورغم أن دستور الدولة علماني، والمجتمع تسوده قيم التقدم والحداثة والحرية والديمقراطية، وحتى الإباحية بمقاييس معينة، إلا أنه توجد في أميركا جماعات دينية متشددة، تحمل أفكاراً غريبة، ومتطرفة، وعنيفة.
يقدر عدد الجماعات الدينية المتطرفة داخل أميركا بنحو خمسة آلاف جماعة، ويتراوح عدد أعضاء كل جماعة بين المئات وعشرات الآلاف، والعدد الإجمالي يربو على العشرة ملايين عضو، وخطورة تأثيرها لا تقتصر على أعدادها الكبيرة؛ بل أيضاً على امتلاكها عناصر التنظيم المنضبط، وموازناتها الضخمة، وتأثيرها الدعائي والإعلامي، لذلك، الكثير من هذه الجماعات أدرجتها وكالة FBI كمنظمات إرهابية، لأنها ترتكب أفعالا خطرة تهدد حياة الناس، مع سبق الإصرار والترصد، وبهدف ترهيب أو إكراه المواطنين، أو التأثير على سياسات الحكومة.
ظاهرة الجماعات الدينية المتشددة في أميركا ظاهرة قديمة بدأت مع قدوم المهاجرين الأوائل، بيد أنها أخذت تتسع وتتزايد أعدادها بصورة واضحة وعلنية في العقود الماضية، والتطور الخطير في نشاطها يكمن في انخراطها في العمل السياسي، وامتلاكها آلة إعلامية ضخمة، تضم مئات الصحف ومحطات التلفزيون والإذاعة. وتتركز هذه الجماعات في المناطق النائية وفي الأرياف والبلدات الصغيرة.
وهناك خشية من أن تتسع وتنشط أكثر في ظل إدارة ترامب، ذات الميول اليمينية والعنصرية.
يفسر البعض عوامل انتشار هذه الجماعات بسبب الفراغ والإحباط وغياب اليقين والهدف، إلى جانب المصاعب الاقتصادية لدى غالبية الشباب الأميركي، وتأثير ما تبثه تلك الجماعات على وسائل الإعلام.. والبعض يضيف سببا آخر، وهو ارتباط ظهور بعض الجماعات بنهاية الألف الثانية من التاريخ الميلادي، إذ تعتقد بعض الجماعات أن نهاية القرن أو الألفية مؤشر على نهاية العالم أو بداية جديدة له، وبالتالي سنشهد مثل هذا النوع من الظواهر الدينية التي تتلبس فيها الجماعات حالات الهوس الديني والرغبة في التدمير أو العزلة.
ولعل تفجير أوكلاهوما (1995) والذي أدى إلى مقتل وجرح المئات من المواطنين، أبرز دليل على عنف تلك الجماعات؛ حيث تبين أن الفاعل أميركي أبيض ومسيحي "تيمبو ماكفي"، ينتمي إلى منظمة "ميتشغان"، وهي ميليشيا عنصرية شبه عسكرية.
وقبلها في العام 1978 في "جوايانا"، استطاع زعيم جماعة دينية اسمه "جيم جونز" إقناع أكثر من 900 شخص من أتباعه بالانتحار الجماعي بسم "السيانيد"، حيث كانوا يقيمون وسط الغابات، ويمارسون طقوسهم الغريبة في معبد "الشعب".
وفي العام 1992، حاصرت قوات الأمن الأميركية جماعة دينية تدعى "الداووديين"، في تكساس، وبعد قرابة الخمسين يوما، اقتحمت المكان، فوجدت جثة زعيمهم "ديفد كوريش" ومعه نحو ثمانين من أتباعه منتحرين، من بينهم نساء وأطفال!
تعتقد تلك المجموعات أنهم وحدهم يمتلكون الحقيقة، لذلك، فهم يرون العالم بلونين فقط: الأبيض والأسود، ويؤمنون بتعصب غريب أنهم يمثلون الملائكة، وأن الآخرين شياطين! كما أنهم يفتقدون القدرة على التسامح إزاء الديانات والأعراق الأخرى..
تتباين مطالب وأهداف كل جماعة، ولكن بشكل عام أغلبهم يدعون لحماية الفضيلة والأخلاق والأسرة، والتصدي للحركات النسائية ومساواة المرأة، ويطالبون بإباحة بيع السلاح دون قيود، وبمنع الكتب والمجلات الجنسية، وتحريم الإجهاض، والمثلية، ويجاهرون بمعاداة العلمانية والحداثة، والتيارات الليبرالية واليسارية، ويرفضون كلياً نظرية النشوء والارتقاء، والنقد التاريخي للكتب المقدسة، ومنهم من يعتزل المجتمع، ويرفض القوانين الفيدرالية والتدخل الحكومي، ويمتنع عن دفع الضرائب.
ومن هذه الجماعات مجموعة تسمي نفسها "الكنيسة التوحيدية"، كانت بدايتها في كوريا الجنوبية ثم انتقلت إلى أميركا في الستينيات، حين أعلن رئيسها القِس "سون ميونغ" أنه تلقى وحيا إلهيا للانتقال إلى أميركا، وقُدرت ثروة الجماعة بأكثر من عشرة ملايين دولار، وهي التي قامت بالانتحار الجماعي في "جونزنادن".
هناك جماعة "كو كلوكس كلان" (KKK): هي الأشهر والأقدم بين الجماعات التي تؤمن بالعنف والقتل، تأسست العام 1865 مع انتهاء الحرب الأهلية، على يد قدامى المحاربين الجنوبيين، وسعت إلى إعادة تفوق العرق الأبيض عن طريق مهاجمة السود.
جماعة "السلطة المطلقة للشعب": تؤمن بأن المواطنين سلطاتهم وسيادتهم أعلى من الحكومة، وبالتالي هم غير ملزمين بدفع الضرائب والاعتراف بالحكومة، ولا بسلطة القانون.. وفي محاولاتها إرباك الحكومة، تقوم برفع آلاف القضايا التافهة شهرياً، لإثقال كاهل القضاء، بالإضافة إلى استهدافهم للقضاة والسياسيين وضباط الشرطة.
"كهنوت فينياس": وهي جماعة مسيحية إرهابية، تستخدم العنف لبث رسائل الكراهية، يكرهون تقريباً كل من هو مختلف عنهم، ويعارضون بشدة العلاقات مختلطة الأعراق، والمثلية الجنسية، والإجهاض، واليهودية، والتعددية الثقافية، وفرض الضرائب، ويرغبون في أمة مسيحية مكونة فقط من البيض.
"جيش الرب": وهي منظمة مسيحية تستخدم العنف لمحاربة الإجهاض، والمثلية الجنسية. وأيضا "رابطة الدفاع اليهودية"" وهي تجسد آخر للإرهاب اليهودي، تستخدم العنف لبث أفكارها ورسالتها، وتتعهد بمواصلة جهودها حتى تقضي على "اللاسامية".
وهناك جماعات غير دينية تكاد تنحصر أهدافها في قضايا البيئة، مثل "جبهة تحرير الأرض"، التي ترفع شعار "الحرق مقابل الحياة"، تستخدم تكتيكات حرب العصابات لمحاولة إيقاف عمليات تدمير البيئة، من خلال حرق البنى التحتية للشركات العملاقة وخطوط الطاقة، وحرق منتجعات التزلج، ومعسكرات قطع الأشجار.. و"جبهة تحرير الحيوان"، التي ترفع شعار "الحرية لجميع الكائنات"، وتعمل على إنقاذ الحيوانات من تجارب المختبرات، وتحريرها من المعامل والمزارع والمصانع.. وجماعة "كريبس"، التي تتبنى فكرة الإرهاب لردع الإرهاب، تأسست العام 1970 في لوس أنجلوس، ثم انتقلت للأحياء التي يغيب فيها القانون، ولا سلطة حقيقية للدولة فيها، تؤمن بأن الطريقة الوحيدة لحل المشاكل هي الردع، وتطبيق القانون باليد، لا تحمل الجماعة أجندة أو برامج معينة، إنما تتحرك وفقاً للحاجة.
لا شك أن قيم التزمت والانغلاق والتطرف وكراهية الآخرين تتشارك فيها كافة الأصوليات والجماعات الدينية المتعصبة، من كافة الأديان والعقائد بما في ذلك الإسلام والمسيحية واليهودية.. بيد أن الجماعات الدينية في أميركا تتفوق على غيرها في الجهالة والتزمت، والغريب أنها وصلت هذا الحد وهي تعيش في بلد ينعم بالخيرات وتسوده أجواء الحرية.
فعلا كما قال إينشتاين: أمران لا أشك بهما: اتساع الكون، وغباء الإنسان..