حذيفة دغش "يا دمشق رفقا بقلوبنا"

حذيفة دغش "يا دمشق رفقا بقلوبنا"
حجم الخط

"من مأساة الحرب يخلق الشعر، من الحرب يموت الإنسان ويحيا الشعر ويحيا بالشعر حتى الحب" الرسالة رقم 35 . لـ "فاطمة الخلف".

تطل اليوم علينا الكاتبة السورية المبدعة "فاطمة الخلف" بمولودها الأول "العابث في مخيلتي" الصادر عن فضاءات للنشر والتوزيع عمان، الذي ضم مجموعة رسائل سلسة غير متكلفة في السرد، شهية، غزيرة بالدفق الشعوري الذي لم يخلو أيضاً من التصوير الشعري المنمق المائل إلى الحس البشري المرهف. جاءت إلينا "الخلف" برسائل شيقة حالمة من عمق الدمار والخراب الذي لا زال يعيث بالشام من فوضى المتوحشين في هذا العالم البائس.

في البداية تحاول الكاتبة في مقدمة كتابها أن تطرح العديد من التساؤلات بلغة شديدة الإفصاح جريئة، حيث وجهت تعاليمها التي تعود للقلب على صورة رقيقة متحررة غير مكترثة لكل القيود الموروثة من الناحية الاجتماعية التي تنغلق فيها على العاشق نفسه في المجتمعات الشرقية التي تهاب أسمى الكلمات هو "الحب"، وهذا دليل على أن الكاتبة قد تعمدت لأن تصل لأعلى درجات التحرر منذ أن خطت كلمة الإهداء، حيث بذلك كسرت كل القيود بسلاسة لما فيها من مصداقية بين الذات للذات وذلك في اعترافها الصريح الذي أعربت فيه امتنانها الكبيرين لأثنين من العظماء حيث كان لهما باع في مسيرة الأدب وحظ وافر في الحياة وهما "جبران خليل جبران" "ومي زيادة" وأن إلهام فكرتها قد جاءت على نمط مماثل، كمصدر للإيحاء في بناء كتابها "العابث في مخيلتي".

حينئذ تكمن الفكرة ، ويكمن الإبداع على حقيقته لما جاءت به من رسائل احترفت فن صياغتها على شكل مرهف ألا وهي رسائل عذبة، نقية، مؤمنة، مثيرة من أول شطر حتى النهاية والتي تجعل منك كائناَ حياً يحيا بكل المشاعر المغيبة في هذا الزمان المتحجرة قلوبهم.

" الخلف" ابنة حلب، تحيك لنا اليوم سطوراً من بين ركام الجراح والمعاناة والألم المستمران اللذان تشهدهما بلاد الشام منذ سنوات أثر مأساة الحرب، حيث كان في أسلوبها ألأدبي الراقي رسالة قد تخطت من خلالها كل ألأوجاع والمعاناة المستمران بأبسط الأشياء التي راحت تحاكي بها العالم كله من خلال قلمها المصوب كطلقة نارية في حنجرة المستوحشين. وهذا دليل على أن الإبداع لا يعيقه أي عائق ولو كانت الحرب بحد ذاتها.

" وأظن حباً على مشارف الحروب والهجرة والضياع هو أسمى حب قد يحدث بين أي أثنين، صدقني يا جبران، الحرب هي الحب لكن الراء هو ما ينتزع منا كل شيء، قد يتحول الحب لهزيمة في سقف الحرب في هذا الزمان. لكن لن أهزم ولن أستسلم مهما كان، في الحرب يغدو حرف الراء مسيطرا على كل شيء ويمتلئ المكان برائحة البارود، الرصاص، الهجرة، الرحيل، الفراق.. راء في كل مكان". تذهب بنا الخلف في حوار مزدوج بين ضدين من المعاناة "الحرب والحب" وكلها على قناعة تامة أن كلاهما يصيب جرحاً، ويترك أثره على القلب. والثاني جاء حوار النفس للنفس المكتظ بالعديد من أسئلة الاستفهام المتكررة.

حيث تأخذنا "الخلف" في رحلة تساؤلات عميقة لدرجة أنك لا تجيد فهم ما ينتظرك في الصفحة التالية. حيث تراود القارئ أسئلة استفهامية متعددة.- أهي نمط رسائل بها مرسل ومستجيب - أم هي رواية يتخلل في حشو سطورها شخوص تتفاعل مع حوارات سردية مطولة ؟ أم ماذا! . حيث ترسم لنا في بداية رحلتها شخصية حقيقية لرجل تصف فيه مناقب الولي الصالح بجمال طلعته الدمشقية وبجل عاداته التي أدمنت على ابتذالها ، كيف؟ ولماذا؟. هي تساؤلات مستمرة تقود بنا نحو اتجاه متشعبة في لحظة ما،حيث كان لدفق قلبها النابض بعلامات العشق أسلوبا يانعاً، حيث يخيلّ لنا وللعالم أجمع أن الحب لا يمكن الاستغناء عنه مهما تبدلت الأزمنة والأمكنة والظروف المحيطة بنا. ولا سيما أنها حثت مرارا بما تؤمن به وبشدة، أن الحب هو غاية الكائنات الحية والتي يتوجب علينا التشبث بها كمحاولة في زرع بذرة الخير في كل نزعة شر تسكن قلوب كائنات هذا العالم المستوحشة.

بعدها تذهب بنا الخلف لنستعيد بذاكرتنا إلى الوراء لنستذكر أسلوباً لربما قد اندثر بعيداُ عن نمط العاشقين بعد غزو الثورة التكنولوجية التي جعلت منا أنصاف كائنات. حينما قالت " ليس ثمة ساعي بريد أفضل من الكتاب، توضع به تلك الرسائل وتصل إلى صاحبها المبجّل" .

أيضاً من الرسالة رقم 35 والتي كانت واضحة في التعبير الممزوج بالحب الذي لم ينقطع وصاله في آن الحرب، التي تشهدها مدينة حلب، فعندما تندمج المشاعر الرقيقة وتتفجر بالصورة الفنية الجميلة، يكون هناك عملاً إبداعياً قد حقق أعلى المراتب من التميز، وهذا ما جعلني تماما أن أعود لقراءة رسائل جبران خليل جبران لعشيقته "مي زيادة" مرة أخرى، لما يصيب القارئ من قشعريرة التناغم الحسيّ برسائل جبران لمي زيادة.

وبعد فترة وجيزة تستوقفك رسالة بعنوان رسالة استثنائية " بلا رقم" حيث تكون المفرق الفاصل في رحلة رسائلها ليتبين بعدها أن الكاتبة خلال رحلة رسائلها كانت تحاور رجلا من صنع مخيلتها لا أكثر. فقد استخدمت الكاتبة حرفة قلمها بكل سلاسة في بناء عملها المرهف، بعيدا عن الفصاحة في اللغة، لتقف لوهلة مستهجنا في الاختلاف بين العملين أمام حواراتها المنفردة لا أكثر، ففي رسائل فاطمة يتبين أنها كانت تحاور رجلاً من عمق ذاكرتها المشكول من سراب لا أكثر.

وفي لحظة ينتابك شعور وأنت تقرأ أن هذا العمل قد جاء ليكمل مسيرة، كانت قد توقفت في زمن ما بفعل النهاية الحتمية على كل الكائنات البشرية وهو الموت، وها هي اليوم برسائلها ولو كانت منفردة بدفقها الشعوري لتعيد للذاكرة نشاطها برسائلها الوليدة نمط العظماء "جبران ومي زيادة" مرة أخرى، ولكن في زمن آخر وبلغة منفردة من قلب أنثى توحدت في حواراتها مع ذاتها دون أي ردود تشفي صدر العاشقة التي اتصفت بها "مي زيادة" من حياء الأنوثة آنذاك ، هي صفة لم تتقمصها الكاتبة لشخصيتها بل كانت حقيقية بعد أن أعربت عنها بين سطور رسائلها مرارا والتي كانت قد تحلت بها "مي زيادة".

" تؤسفني تلك الأسئلة التي تراودني دائما يا جبران، البعد يفتعل ذلك، أو ربما أنت السبب في ذلك وربما قدرنا هو من يفتعل ذلك، الإفصاح عن المشاعر يجلب الكثير من المتاعب، فنستغل من قبل الطرف الآخر، نستغل بمشيئتنا، كأن نصبو لمحادثة، فلا يحادثونا، كأن نشتاق لملامسة وجوههم، فيكسروا يدنا، وكله باسم الحب، حينما نفصح، لا نكون أغبياء، لكن في زمننا هذا، نكون بريئين من الكبرياء، وهل يستوجب حضور الكبرياء في كلمة الحب؟" . ونجد هنا اختلاف آخر واضح، حيث توجه الخلف رسالة ملامة "لجبران" وهو رجلها الذي صنعته من رحم مخيلتها، لا جبران خليل جبران والتي تعمدت في كنيته بذات الاسم لسبب، كما أعربت عنه داخل رسائلها، فقد كانت تتمنى في لحظة ما أن يكون جبرانها ذلك الرجل البخيل في عطاء الحب أن يكون على نمط "جبران" الحقيقي في الطريقة التي كان يخاطب بها حبيبته بمشاعره المليئة بالحب، حيث لم تشعر لليلة ما أن بمقدور جبرانها على الإفصاح عن مشاعره بالشكل الذي كانت تتمناه، كما في أسلوب جبران مع مي زيادة آنذاك.

ثم تذهب بنا نحو رسالة بدون رقم تمتدح فيها الكاتبة، جل العاشقين من أجناس الكتاب الذين يعتنقون الأدب في دواخلهم على أنهم أبلغ في عشقهم عن غيرهم، في رحلة البحث عن كل شيء يراود ذاكرتهم كما يرتئون لتكون بمثابة طوق نجاة لهم فيما ينتقونه من مفردات سطورهم كما يشتهون، فقد أعربت " الخلف" أيضاَ لمن هم من أجناسها من الكتاب على أنهم أكثر وفرا من غيرهم وأقلهم حظاً " ربما أنا مجنونة وربما أنا عاشقة. ولأني كاتبة فعشق الكتاب مختلف، في كل مرة أسأل أحداً عن الحب كان يعرفه لي على أنه كل شيء جميل وكل شيء مؤلم وبالنهاية هو كل ما في الوجود"

وفي حالة أخرى من رسائلها التي جاءت في على سبيل المثال في الرسالة رقم 30 . حيث هنا تظهر فلسفة اللغة واضحة معها بنضوج متواري منذ الرسالة الأولى، في حين أنها قد استخدمت لقب جبران المخاطب كاستعارة متكررة لا أكثر وكان ذلك واضح تكراره بين كل رسالة وأخرى، " جبران.. النصف لا ينصف يا جبران، لا يسعد ولا يحزن، يتركك على أوتار الحيرة، يشعل ثورة بداخلك، فنصف حب كذب ونصف نهاية خداع ونصف فراق يقتل ونصف حضور يبعثر، النصف لا ينصف يا صديقي، إما حضور كامل أو غياب بلا عودة حتى ولو كان غيابا قاتلاً، فالقتل مفيد أحياناً ولو كان موتاً حتمياً، بينما النصف من ذلك الغياب يشبه أم الشفاء من علة السرطان، وأنا لا أحبذ الأمل التائه".

وأخيرا توجه الخلف رسالة شكر في نهاية رسائلها، لجبرانها على مضض، حيث يكون شكرها هنا جاء من عمق قلبها، فقد كان الحب بالنسبة لها سبباً في أن تتخذ مسلكاً آخر في نمط حياتها بعد تجرع الخيبة، وكانت الحرب سببا آخر في إلهامها الذي أخذ بها نحو التطلع بالأمل اللا منقطع قطراته.

كما أنها خصّت مرارا إهداء عملها " لجبران خليل جبران ومي زيادة" ولكتاب الشعلة الزرقاء معاَ في بزوغ هذا العمل من استلهام للفكرة.

رفقا أيتها الدمشقية بقلوبنا، وهنيئا لنا وللأدب مرة أخرى على هذا العمل الجميل الذي يشبه قلوب الزهرات الصامدات في شتى البلاد. فمن رحم المعانة يزهر الإبداع وتكبر في دواخلنا يرقاته ومنها تتفجر كل الطاقات كما الحب لنحيا وتحيى معها البلاد.