إن انتعلت طفلتنا الصغيرة حذاء الكعب العالي لأمها، سنجد الأمر مضحكاً. إن انتعل ولدنا الصغير الحذاء بدحش قدمه اليمنى في فردة حذائه اليسرى وبالعكس، سنجد الأمر مسلّياً.
لا يعود الأمر مضحكاً ولا مسلّياً إن تعثّرت الطفلة واندبّت على وجهها باكية، أو تشربكت قدما الولد الراكض، ووقع إن داست إحدى قدميه على سيّور (رباط) فالت، فقد يصير الأمر خطيراً خارج البيت.
يكبر أولادنا، ويدخلون الجامعات، ويعرفون في مدارسهم الإعدادية والثانوية، أن اليد والقدم اليسرى تتبعان الفصّ الأيمن من الدماغ، وبالعكس، وبعضهم قد يكون قرأ في «السوشيال ميديا» ما قاله فلاديمير إيليتش لينين عن «مرض الطفولة اليساري»، أو أن «الإسلام هو الحل»، أو أن البندقية صانعة الانتصارات.. إلخ!
الدرب فَتَل، ومعه علامات الطريق التي تشير إلى النظرية والتطبيق، وصار يمكن للشباب أن ينتعلوا حذاء الكعب العالي لأمهم، أو يدحشوا القدم اليمنى في فردة الحذاء اليسرى. لكن هذا لا يعود مضحكاً ولا مسلّياً، بل هو مؤسف ومحزن.
لا أعرف إن كانت الجامعة العربية ـ الأميركية أحدث الجامعات الفلسطينية، وأعرف أن جامعة بيرزيت هي أقدمها وعميدتها، وأن هذه وتلك يفترض أن تكونا أكثر جامعاتنا ليبرالية، وانفتاحاً على الرأي والرأي الآخر، وأن اتحادات الطلبة فيهما هي الأكثر تعبيراً عن الاتجاهات السياسية السائدة في الشعب.
مع هذا، فإن الحرية الأكاديمية فيهما لا تمارس على وجهها الصحيح، عدا انتخاب مجلس الطلبة، وقبول النتيجة. لكن.. ماذا؟
لعلّ الجامعتين أكثر الجامعات الوطنية في منع سماع وممارسة الحرية الأكاديمية والفكرية إذا جاءت من ضيوف وزوّار قصدوها وطرحوا آراء تخالف المطروق والسائد عن الديانات والسياسات معاً.
الشواهد تترى وصارت كثيرة، لم تعد مضحكة ولا مسلّية، بل مؤسفة ومحزنة، وآخرها أن أربعة أطر «يسارية» في الجامعة العربية ـ الأميركية، طرحت سؤالاً سخيفاً على إدارة الجامعة، وأجابت عن سؤالها بنفسها. السؤال السخيف: لماذا وافقت الإدارة على استضافة النائب الفلسطيني في الكنيست، أيمن عودة. الجواب المحزن من هذه الأطر هو: رفض حضور النائب، «عضو الكنيست الصهيوني»؟ رئيس القائمة العربية صهيوني؟
أنا، شخصياً، من وصفت أيمن عودة بأنه «الفلسطيني الجديد» وكنتُ وصفت عزمي بشارة بأنه «العربي الجديد».. ثم اعتذرت، وصارت له صحيفة هذا اسمها!
المؤرخ الفلسطيني، والكادر السابق في الجبهة الديمقراطية، ماهر الشريف، أضاف ملحاً على جرحي، عندما اعترض على بيان الأطر اليسارية الأربعة، وأشار إلى أدبيّات ومواقف م.ت.ف من خصوصية نضال شعبنا في إسرائيل، وبالذات، منذ عقد اجتماع براغ 1977 بين «م.ت.ف» وحزب «راكاح» الشيوعي.
قلمي، شخصياً، هو من كتب أوّل مقالة بهذا الخصوص في «فلسطين الثورة» وتبنّى ماجد أبو شرار، مسؤول «الإعلام الموحّد» فحوى المقالة، وطرحه على اللجنة المركزية التي أجازته.
هل أقول: كيف لشباب هذه الأطر اليسارية أن يرتدوا الكعب العالي، أو أن يضعوا القدم اليسرى في فردة الحذاء اليمنى في «جامعة الشهداء والأسرى»، وفوق ذلك أن يشكروا من علّموهم بالبندقية قبل القلم، أي بالشعار السياسي العريض قبل العقل، وأن ينتهي «البيان المهم» بـ «نعم للوحدة الوطنية».
لا أقول ما قاله ماو «دع مائة زهرة تتفتّح» بل أقول ما قاله تشكيل القائمة المشتركة من نواة وحدة وطنية فلسطينية في إسرائيل، صوّتت بنسبة 86% لنوّاب القائمة.
كانت جامعة بيرزيت تضمّ عدداً معتبراً من الطلاب الفلسطينيين في إسرائيل، والآن تضمّ الجامعة العربية الأميركية عدداً أكبر منهم، والأرجح أن معظمهم صوّتوا لصالح القائمة المشتركة.
أزمة اليسار الفلسطيني من أزمة اليسار في العالم، من أزمة الشعار اليساري «يا عُمّال العالم اتّحدوا» لكن اليسار الفصائلي الفلسطيني، يفترض به أنه ثقّف كوادره على برنامج الوحدة الوطنية في إطار «م.ت.ف»، منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي. هذا زمن «أنت منذ الآن غيرك» كما قال درويش!
في تلك المرحلة سخر درويش من الشعارات بقوله: يجب الذهاب إلى اليسار/ يجب الذهاب إلى اليمين/ يجب الذي يجب/ يجب الدفاع عن الغلط».
بعد بيان الأطر الأربعة، كتبتُ على صفحتي فكرة خرقاء: على جامعاتنا أن تعدّ طلابها لسنة إعدادية لتثقيفهم بالحريات الأكاديمية، وقبول الآراء الأخرى، وتلافي الخلط بين «جامعة الشهداء» وجامعة الآراء المختلفة، أو الخلط بين الجامعة والجامع، وبين حرية الأكاديميا والتعصّب الفكري والسياسي والأيديولوجي.
في بيان هذه الأطر: المضحك، والمسلّي.. والمحزن، أنه يمثل ثلّة من الرجال والماجدات من بين عشرة آلاف طالب وطالبة «أي أقلية فرضت نفسها ورأيها على الغالبية، وختمت بيانها «نعم للوحدة الوطنية»!
عبارة واحدة عن جولة ترامب: مضحكة، مسلية.. ومحزنة.
***
من مجموعة شعرية لزهير أبو شايب، معنونة «مطر سرّي» هذه الاقتباسات لتطرية الجو العكر الضارب أطنابه:
«ترين البحر/ لكن لا ترين الجبل الغارق في البحر»
«انظري إلى حلمي/ حتى تَري نفسك أنت»
«طيري/ وطيري/ وصيري سماء/ لها جسد من الضوء»
«أنا النهر لست الغريق/ أنا النهر/ والضفتان، اللتان هنا/ ضفتاي»
«ما اسمك الآن في الحلم/ والضوء يسهر فيك/ وأنت بلا حرس/ وبلا خلفاء على اسمك»
«لا تذهبي والليل مفتوح عليّ/ فكلّ نجم في السماء سينطفئ»
«ماذا افعل عندما أشتاق/ لكي أظلّ مبلّلاً بالحلم حتى آخري»
«هل حقاً خلقتك دون أن أدري».
حسن البطل