حتى لا يختلط الحابل بالنابل

thumbgen.jpg
حجم الخط

 

القمم الثلاثة التي عُقدت في الرياض كانت بحق قمماً استثنائية، فهي استثنائية في التوقيت وفي الأهداف وفي المصالح وفي النتائج أيضاً، ونحن، إذ نتفهم الظروف والخلفيات التي من أجلها عُقدت هذه القمم، ولكننا أيضاً، نتحدث من هنا، من الأرض العربية المحتلة التي مضى على احتلالها خمسون عاماً، ويسوء الوضع فيها سنة بعد سنة، إذ تقل الأرض شبراً شبراً، ويقل العمل من أجلها متراً متراً، ويتراجع العربي الساعي إلى تحريرها ميلاً ميلاً، فقبل خمسين عاماً، كان هناك "لاءات ثلاثة" وكان هناك ثورة فلسطينية وكان هناك أقطاب متصارعة، أما اليوم، فإن كل شيء تغير، انهارت الحدود وانهارت الدول وانهارت الايدلوجيا، وهذا لا يعني أن ما كان قبل خمسين عاماً هو الصواب، ولا يعني أن ما يحدث اليوم هو الخطأ، ولكننا نقيس الأمور بنتائجها، وتقول النتائج أن هذه القمم الثلاث لم تضع القضية الفلسطينية ومعاناة الشعب الفلسطيني في قلب اهتمام المجتمعين، بل تم التركيز على محاربة النفوذ الإيراني ومواجهة الإرهاب، وعلى الرغم من أن هذين الهدفين لهما ما يبررهما من ناحية المخاوف والتوجس لدى بعض الأطراف العربية، ولكنهما أيضاً سيثيران الكثير من الجدل بينهم، إذ أن المجتمعين سيختلفون على نوعية وطبيعة وحجم تهديد النفوذ الإيراني، كما أن المنطقة العربية منطقة ثقافية متسعة وشاملة ومتعددة، بحيث تتداخل المستويات الثقافية بالسياسية، الأمر الذي يجعل من هذا النفوذ ضبابياً أو غير واضح أو حتى محتمل في بعض الأماكن، كما أن الإرهاب مفهوم مطاط ويحتاج إلى تعريفات متعددة، وكذلك أسئلة قد تكون محرجة.

مرّة أخرى، نحن نفهم أسباب ودواعي عقد هذه القمم، ولكننا بحاجة أيضاً إلى التوقف قليلاً أمام ما حدث.

فالرئيس الأمريكي وبعد أن وقّع صفقة العصر بمئات المليارات من الدولارات، لم يقل شيئاً واضحاً في أي من القضايا التي انتظرناه أن يقولها، فهو لم يطرح آلية محددة لمواجهة النفوذ الإيراني سوى أن يبيع "أسلحة"، ولم يقدم تعريفات وخلفيات للإرهاب سوى أن قدّم أسماء تنظيمات سنختلف – كعرب وفلسطينيين – على تعريفها كجماعات إرهابية أم لا، وإذا اعتقد البعض من الحضور أننا نوافق على تصنيف حماس كمنظمة إرهابية، فهو مخطئ، وإلا لماذا ذهبت القيادة الشرعية وبحرص شديد على إدماجها في النظام السياسي الفلسطيني؟! وعودة للرئيس ترامب، وهو لم يقدم على صعيد إعادة العلاقة بين الغرب والعرب سوى أنه يطلب من العرب والمسلمين أنفسهم أن "يعالجوا" أنفسهم بأنفسهم، وكأن العيب عندنا، في الثقافة ونظام الحياة ونظام الحكم، دون أن يُحمّل الغرب أدنى مسئولية في أزمات المنطقة العربية والإسلامية، كما أنه لم يتطرق للمعضلة الكبرى في المنطقة، ألا وهي الاحتلال الإسرائيلي، بالمناسبة، لم يذكر الاحتلال ولم يذكر إسرائيل في معظم الكلمات التي أُلقيت في القمم الثلاثة، وكأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي انتهى أو أنه من قلة الأهمية بحيث لا يُذكر.

ومن هنا لنا الحق في العتب الكبير على عدم إيلاء التسوية السلمية ما تستحق من اهتمام، ولنا عتب كبير أن لا يتم التذكير بالمبادرة العربية التي كانت في الأصل مبادرة سعودية، وسُفك من أجلها دماء كثيرة حتى لا نتنازل عن السقف الذي طرحه، إن السكوت عنها في الكلام يوم أمس في الرياض لهو مقلق جداً.

وبهذا الصدد، فإننا نوجه التقدير الكبير للموقفين المصري والأردني، اللذين أكدا التزام مصر والأردن بالمبادرة العربية كأساس للحل، وتأكيدهما أن تجفيف الإرهاب وهزيمته يبدأ من حل القضية الفلسطينية. تميز الموقفان الأردني والمصري يوم أمس بإعادة المشكلة إلى مربعها الأول؛ ألا وهو الاحتلال.

الآن، وقد انتهت القمم الثلاثة، وترامب ما يزال في بلادنا، فإن الموقف الفلسطيني الذي نتوقعه والذي ستتخذه القيادة الحكيمة والرشيدة هو أنه لا يمكن التساوق مع أية حلول التفافية لا تتفق مع المبادرة العربية التي أصبحت موقفاً لا يجب التنازل عنه.

وهذا يعني أن لا حلول اقتصادية بديلاً عن الحقوق السياسية، ولا تطبيقاً للمبادرة بشكل متدرج ومتوازٍ، بحيث تفوز إسرائيل بالأرض والتطبيع والسلام دون أن تقدم للفلسطينيين شيئاً، وهذا يعني أن لا يكون هناك استعجال للنتائج أو الهرولة أو رعباً أو خوفاً من أية ضغوط قادمة.

القيادة الفلسطينية، وهذا توقعنا، وهو توقع قائم على أسس قوية ومعرفية، هي أقل الأطراف خوفاً أو رعباً من أية إدارة أمريكية قادمة أو ذاهبة، فنحن أصحاب الحق ونحن الذين نعطي شرعية لكل ما يجري أو ننزعها عنه.

مرّة أخرى، بقدر فهمنا لما يجري، وبقدر حرصنا على أن نحصد ثمار ما يجري، وأن نجد لنا مكاناً في الواقع الجديد، إلا أننا لا نريد تكرار أخطاء الماضي إطلاقاً.

ما أقوله ليس دعوة لرفض أو هدم أو إدارة الظهر لما يجري، كما يفعل بعض السياسيين والمحللين والكُتّاب، فلا داعي للتخوين أو الاتهامات المتسرعة، دعونا نتروى قليلاً، ودعونا ندقق قليلاً في المواقف، فالسياسة لا تصنع في الإعلام.

أخيراً، لا أحد يعتقد أن قيادتنا الفلسطينية حكيمة إلى درجة الضعف، لا، هي حكيمة إلى درجة التمسك الدائم بالثوابت، فلا توقيع إلا بشروطنا التي تكفل دولتنا المستقلة، ولا أحلاف غامضة أو يمكن أن تُفكك الأمة، ولا قبول بتوظيفنا أو استخدامنا أو اتخاذنا مطية لأهداف قصيرة المدى.

نحن لا نستعجل الأحداث، ولكننا بحاجة إلى توضيح المواقف، وترامب ليس هو خيارنا الوحيد، الشعوب لا تعدم خياراتها، وليس من قبيل المبالغة القول إن الفلسطينيين هم الشعب الأقل تهديداً والأقل إحساساً بالرعب.