توقفت مراراً خلال الأسابيع الماضية أمام تصريحات وتطورات ذات مغزى. أيقنت أن كثيراً منها، كلاً على حدة، كان على مقدار كبير من الأهمية. وفي الوقت ذاته كنت على ثقة بأن رابطاً ما غير معلن يربط بينها فيضاعف من أهميتها ويجعلها كلاً تعني وضعاً أو حالة استثنائية تستدعي التأمل والتأني في الحكم عليها. سمعنا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يصرح بأن العالم يعيش مرحلة ما بعد الغرب. كان علينا في بداية الأمر التعامل مع التصريح بحذر، إذ قد لا يعني بالضرورة أو الدقة أن الرئيس الروسي يعتقد أن الغرب بوصفه كتلة سياسية وثقافية وأيديولوجية هيمنت على العالم لقرون عديدة دخلت مرحلة الانفراط، وبالتالي يستحق العالم هيمنة أخرى. ومع ذلك كان الحذر ذاته يتطلب منا أن نضع في الاعتبار أن تصريحاً كهذا ما كان ليصدر على لسان رئيس روسي ما لم يكن يحمل خلاصة اجتهاده والمؤسسات الروسية، أو يعكس حالة عالية من الرغبوية عادت تحفز صانع القرار الروسي لمواجهة كبرى في علاقته مع الغرب.
لذلك لم نستطع نحن وآخرون في الغرب كما في الشرق إخفاء اهتمامنا بما تسرب عن اتصالات وعلاقات بين أشخاص في حملة الرئيس ترامب الانتخابية وجهات روسية. زاد من تعلقنا بمتابعة تطورات هذه القضية الحرص البادي من جانب حكومة الرئيس ترامب على أن لا تتأثر علاقته بروسيا بالحملة الإعلامية المصاحبة لهذه التسريبات والتحقيقات. بل صار واضحاً، لنا على الأقل، أن القيادتين الأميركية والروسية كانتا تعولان على إقامة علاقة بينهما مختلفة جذرياً عن العلاقة التي قامت بين قادة البلدين على امتداد الحرب الباردة وما بعدها. المثير للانتباه أنهما لم تعيرا اهتماماً يذكر لحقيقة أنه باستثنائهما لم تغير النخبة السياسية الحاكمة في كلا الدولتين موقفها تجاه الدولة الأخرى، وهو الموقف الموروث عن مراحل العداء والمواجهات الحادة. هذا الوضع المثير للجدل يصعب التغاضي عن غرابته بل شذوذه عند تصوير أو تحليل حال العالم في اللحظة الراهنة.
لم يكن مفاجئاً، وإن كان مثيراً للتكهنات، الإعلان عن صفقة سلاح أميركية للسعودية بثمن غير مسبوق. كانت الصفقة متوقعة لأسباب كثيرة، وبخاصة تلميح ترامب مراراً إلى أن إدارته لن تلتزم الدفاع عن دول في الخليج أو خارجه إلا إذا غطت هذه الدول تكاليف الحماية. الأسباب الأخرى يتصدرها الاتفاق بين إيران وروسيا على تزويد الأولى بصواريخ متقدمة. بمعنى آخر يحدث الآن في الخليج ما يحدث في مواقع توتر أخرى في العالم حيث تتسابق دول على شراء السلاح أو إنتاجه. هذا السباق إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن حالة من «الفلتان» وعدم احترام قواعد الجوار والمعاهدات الدولية عادت تهيمن على النظام الدولي، وتبدو أكثر وضوحاً في الشرق الأوسط وفي شرق آسيا وجنوب شرقيها.
يأخذ «الفلتان» أشكالاً متنوعة جميعها يعكس درجة أو أخرى من عدم الالتزام في السلوك بين الدول أو بين الدول وجماعات منظمة، أو من جانب أطراف في المجتمعات مستفيدة من حال تدهور السلوكيات وعدم احترام الدول أو الجماعات قواعد العمل السياسي. الأمثلة عديدة، أختار منها اثنين. أختار هذه الحروب الرقمية، المتعمدة والعشوائية، التي تشن على مواقع حساسة في دول وشركات شتى. يبدو لي، بصفتي مراقباً غير متخصص، أن الظاهرة، على رغم الأضرار الهائلة التي تسببت فيها وحال الارتباك الذي يصيب عمل قطاعات إنتاجية والتوتر المحيط بها، لا تزال في بداياتها. كم كانت مؤثرة ومثيرة للقلق الخريطة التي بثها بعض قنوات التلفزيون وقد ظهر فيها مئات بل ربما آلاف المواقع المصابة في ثلاث قارات. أصيبت كما فهمنا في لحظات أو دقائق معدودة وفي وقت واحد، هجوم لم يقع في شموله واتساعه مثيل في أي حرب سابقة.
المثال الثاني الذي اخترته من بين أمثلة عديدة، هو الحال التي آلت إليها مهنة الصحافة في العالم كلاً وفي عدد متزايد من الدول الكبرى. مهنة الصحافة واحدة من أقدم المهن وأقربها صلة بالنظام الليبرالي العالمي، وسقوطها أو انزواءُها يعني بداية خلل أكيد في تطبيقات الليبرالية، وقد يعني، كما هو حادث في روسيا، سقوط الليبرالية كأسلوب حكم وإدارة المجتمع. الآن تتعرض الصحافة في أميركا لحملة كراهية واستخفاف بل إدانات وصلت إلى حدود غير متصورة في مجتمع مارَس الليبرالية واعتنقها. رئيس الدولة ناصَبها العداء فردت له عداءه بقسوة أشد، وانقسم بسبب خلافهما مجتمع النخبة الحاكمة وانتقلت العدوى إلى العالم الخارجي. صار القارئ بفضل هذه الحرب والحرب المضادة يشك في صدق ما يقرأ في صحيفته اليومية سواء ما يصدر عن المسؤولين أو ما يعلق به الصحافيون. الرئيس الأميركي يشكو إلى الشعب ظلم أجهزة الإعلام، والإعلام من جانبه يرفض عقد هدنة مع هذا الرئيس، هكذا استحق الأسبوع الماضي صفة الأسبوع المتوحش في تاريخ مدينة واشنطن.
ليس جديداً على أفراد من جيلي الاتهام الموجه إلى روسيا أو غيرها بالتدخل في انتخابات دولة أو أخرى لمصلحة مرشح بعينه أو ضد حزب أو آخر. تعوَّدنا أن نرى الولايات المتحدة الدولة الأكثر تدخلاً في شؤون الدول الأخرى، بل هي الدولة التي كانت تتدخل علناً وسراً لإسقاط حكومات وإقامتها. فَعَلَتها في سورية في الأربعينات، وفي العراق أسقطت نظام صدام وفي أفعانستان أسقطت حكومة طالبان وفي شيلي أسقطت حكومة الليندي اليسارية وأقامت محلها نظاماً عسكرياً وهي الدولة رائدة الليبرالية. الآن تشكو النخبة الحاكمة في أميركا وفي فرنسا، وسوف تشكو نخبة بريطانيا، من تدخل روسيا في انتخابات بلادهم. لا توجد دولة بريئة من تهمة التدخل. معظم الدول يتدخل في شؤون الجيران ليضمن لنفسه حكومة موالية أو سياسيين متفهمين أو تابعين. رأينا في الشرق الأوسط أعداداً لا تحصى من دول تدخلت لإحباط ثورات الربيع العربي أو الاستفادة منها، دول الناتو بقيادة أميركا تدخلت، روسيا تدخلت، دول عربية تدخلت، تركيا وإيران تدخلتا. النتيجة كما نرى نظام إقليمي في حال فوضى.
بعض ما يحدث في النظام الدولي لا يختلف كثيراً عما حدث في النظام العربي. أميركا، الدولة الأكثر نفوذاً في النظام الدولي، تواجه صعوبة في إدارة حلف الناتو وتوجيهه. أميركا في نظر ألمانيا وفرنسا تخلت عن قيادة الغرب، تخلت عن زعامة النظام الليبرالي العالمي، بل هي متهمة بأن رئيسها يشجع الحكومات المستبدة والمرشحين المتطرفين على حساب القوى الليبرالية. لذلك كان فوز ماكرون فرصة تستجمع فيها القوى الليبرالية العالمية بقيادة مركل وماكرون شجاعتها وتنتقل إلى الهجوم أملاً في منع انهيار الليبرالية ووقف تمدد التيار الشعبوي.
في ظل الفوضى السائدة يغلب الظن بأن المعركة التي تستعد لشنها القوى الليبرالية ضد ترامب وبوتين وتشي ستكون صعبة ومكلفة. أضيف اعتقادي بأننا نعيش إرهاصات التمهيد لقيام نظام دولي جديد إلى جانب إرهاصات انفراط نظام إقليمي قائم وإقامة نظام إقليمي جديد.
عن الحياة اللندنية