في مؤتمرات ثلاثة حافلة للرئيس الأمريكي الجديد (ترمب) احتفى المجتمعون من 55 دولة بالرئيس الجديد، وتعاهدوا معا على تحقيق (الشراكة الوثيقة بين قادة الدول العربية والإسلامية والولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة التطرف والإرهاب) كما نص (إعلان الرياض) في بنده الأول .
في أكثر من 20 بندا في "الإعلان" العربي والإسلامي تم التأكيد على (الالتزام الراسخ) بتأسيس (تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي في مدينة الرياض، والذي ستشارك فيه العديد من الدول للإسهام في تحقيق السلم والأمن في المنطقة والعالم)-حسب النص، دون الإشارة لا من قريب ولا من بعيد للقضية الفلسطينية، أو للإرهاب الأول في العالم والمنطقة الذي تمثله وترعاه دولة الكيان الصهيوني، ولو عرضا أو تلميحا أو تورية أو عبر الاستعارة اللغوية.
ومن 28 بند جاءت في (البيان السعودي الأمريكي المشترك) -اللاحق على بيان القادة ال55- وهو الممثل لرؤية البلدين الإستراتيجية تم تمرير القضية الفلسطينية من خلال بند ضعيف جدا، وضامر، وهو البند رقم 24 الذي سبق بند اليمن رقم 25 ليقول: (كما أكد الجانبان على أهمية الوصول إلى سلام شامل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتعهد القائدان ببذل كل ما في وسعهما لإيجاد مناخ يساعد على تحقيق السلام).
إن ترتيب البند الضامر عن فلسطين لم يأتِ اعتباطا، وإنما نتيجة، ففي الوقت الذي كانت فيه قضية فلسطين تمثل القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية، وكما كان يردد المرحوم الملك فيصل بن عبد العزيز هاهي اليوم تتراجع في (الشراكات الاستراتيجية) لتصبح في المرتبة ما قبل الأخيرة -جاء الشأن اللبناني في المرتبة 28 أو الأخيرة- بل ولتتراجع لتصبح قضية (ثنائية) بين الفلسطينيين والإسرائيليين يتعامل معها القائدان بعد النظر والتعامل في العلاقات التاريخية والإستراتيجية بين البلدين، وبعد قضايا مركز (اعتدال)، ومحاربة التطرف، وجلب (الثقة والاستقرار والمصالح المشتركة-حسب البيان نصا) وبعد بناء (شراكة استراتيجية جديدة لقرن 21 بما يحقق مصلحة البلدين–البند 4) ما يتوجب عليه (تشكيل مجموعة استراتيجية تشاورية مشتركة– البند 5)، وباختصار بعد 23 بند هام سابق يمثل الأولوية.
يأتي النظر الخجول والمتدني والواهي للقضية الفلسطينية-تلك التي كانت قضية العرب المركزية الأولى سواء في الخطاب القومي أو الاسلامي في زمن ولى وانقضى!-لتتراجع إلى قضية هامشية ثانوية، وثنائية بين الجانبين "المتساويين"، وهي بذلك ليست ذات قيمة جماعية، وليست ذات أولوية.
بل والأشد مضاضة من ذلك إنها قضية لا توجب النظر فيها بين القائدين للحل! أوتحديد أسس هذا الحل العادلة على الأقل! بل جاء النظر فيها محققا لإشارات سلبية مسبقة كثيرة منها إشارة (روبرت ساتلوف) المدير التنفيذي لمعهد واشنطن، وكذلك الكاتب الامريكي (ألون بن مائير) بما رأياه –وغيرهما- الذي يتمثل فقط في التطابق بينهما ومع ما طرحه البيان من: بذل الوسع (لإيجاد مناخ يساعد على تحقيق السلام-حسب البيان) وتحقيق الثقة بين الجانبين!
فقط المطلوب (إيجاد مناخ يساعد)! ما يعني بكل وضوح أننا ندخل بلا لبس في مرحلة النفق المظلم، بلا نور في آخر النفق، فنحن نترقب سنوات ستكون المهمة الأولى فيها ليس للحل (بين الفلسطينيين والإسرائيليين) وهما الطرفان المتساويان هنا،! وإنما (إيجاد مناخ)! ما يعني التراجع الكبير عن المبادرة العربية التي أطلقتها السعودية، وما يعني حين عدم ذكر أي أساس من أسس الحل أوالإشارة ولو من بعيد للدولة الفلسطينية المستقلة أو الحق الفلسطيني أن الأمة العربية والإسلامية (إيران غير مستثناة رغم عدم حضورها) هي أمة قد خسرت نفسها وتنازلت عن قضيتها الأولى، لصالح (الأرض والاستقرار والمصالح المشتركة) كما أكد البيان الاستراتيجي الأمريكي والسعودي.
إنها أمة ترى بطرفيها الاقليميين العربي والإيراني أن أولوية الصراع ما عادت لتحرير فلسطين، لا عسكريا ولا سلميا، مهما رفع النظام الإيراني أو غيره من شعارات، وإنما الأولوية لديها في تفتيت جسد الأمة وفي الصراع على جسد الأمة، كما أكد الرئيس روحاني في دعمه للعراق وسوريا ولبنان بإطار الاحتراب مع السعودية دون أي إشارة لفلسطين أيضا.
إن صراع المحاور العربية والإقليمية قد ألقى بظلاله على القضية الفلسطينية فأتلف حالة الالتفاف حولها، ودفع بها بوضوح لذيل الاهتمامات، وربما لولا شيء من الخجل لما كانت الدعوة للرئيس أبومازن.
إن صراع المحاور العربية والإقليمية والباحثة أساسا عن (الأمن والاستقرار والمصالح المشتركة-حسب البيان الامريكي السعودي) يظهر إلى ذلك جليا في الخطاب الأول للرئيس الايراني روحاني بعد انتخابه، ويظهر في مجريات زيارة (ترامب) التاريخية إلى السعودية، ويظهر في صمت بيان ال55 زعيما عن فلسطين، ويظهر في امتناع معظم الخطباء عن الإشارة للقضية الفلسطينية، باستثناء الوضوح الذي نحترمه مما قاله الملك عبد الله والرئيس السيسي.
لا شأن لنا بالمظاهر الاحتفالية بالرئيس (ترامب) في السعودية، والذي أخذ ما كان يتمناه، وما قاله علنا للأمريكان أثناء حملته الانتخابية، ثم ردده أمام مضيفيه بل وكرر ذلك ثلاثا ،وهو مبتسم بشوش ويكاد يطير فرحا، إذ قال: (وظائف، وظائف، وظائف)! ولن نخوض بالمليارات التي لو استخدمت بحكمة سياسية ذات أفق أوسع، وضمن فكر الصفقات الاقتصادية-السياسية لكانت ثقلا لنا في قضية المستوطنات أو الأسرى على الأقل.
أن الفشل الإيراني في التغلب على صراعاته الإقليمية، وحمله النزعة الطائفية على جناح السياسة أو العكس، قد أضعفنا وفتت المنطقة، وكما هو الحال اليوم في الفشل العربي بالدفاع عن فلسطين التي تحولت من قضية مركزية إلى بند هامشي ضامر خجول في سجل الصراعات في المنطقة.
لم تنظر إيران مطلقا في محادثاتها النووية لقضية فلسطين، رغم شعاراتها الحارقة! فهل نلوم السعودية على أولوية شأنها الداخلي؟ وهي التي لا تقصر بالدعم المالي للفلسطينيين؟
لم تقف سوريا بعدتها وعتادها وشعاراتها القومية طوال سنين مع الحق العربي إلا في سياق الاستيلاء على القرار الفلسطيني فصدأت الأسلحة ولم تستخدم إلا ضد الشعب السوري، فهل نلوم الإيرانيين؟
وكيف لنا ألا نصطدم بحالة تأجيج الصراع المذهبي الإقليمي وأكبر دولتين في المنطقة تتنازعان، والبارز أن هذا الصراع هو لغرض الحفاظ على نفوذهما ومشروعية نظاميهما،مع الفارق، وكل ما عدا ذلك ثانوي أو هامشي.
إن الانحدار الذي وصلت له القضية الفلسطينية في أفقها العربي والإسلامي كان سببه الرئيس هو تساوق الأمة مع المستعمر، ووضعها أولوية استقرار النظام على مصالح الناس، وأولوية النظر للعدو الجديد المصطنع مقابل قضية العرب المركزية (أو ما كانت كذلك).
هو انحدار ساهمنا فيه نحن الفلسطينيين بجد واجتهاد، بدأ مع الخدعة الامريكية تلك التي انتهت بتدمير العراق، ثم بتلك التي انطلت على "حماس" بانقلابها على غزة عام 2007 وبالخدعة الثانية التي تهيأ لها فيها أنها تؤسس (لمناخ) يقبلها فيه المجتمع الدولي فتكون بديلا لحركة فتح والسلطة عبر ما عبرت عنه في وثيقتها وخطابات مشعل مؤخرا.
إن المخطط أوالخدعة الكبرى للأمة بتفتيتها وتدميرها وإعادة تقسيمها، ثم الخدعتين الكبيرتين ل"حماس" التي افترضت إمكانية أن تكون جزءا من (المناخ) كانت على (فاشوش) بالعامية، كما هو الحال في الخدعة أو المخطط المرسوم لتطويع حركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح والفلسطينيين عامة بإخراجهم من فكر الثورة والمقاومة والتحرير إلى (مناخ) أو فكر التساوق والتماهي والانحدار، وفق ما افترضنا نحن ووفق ما افترض مشعل أنه (المناخ) القطري المطلوب بما أسماه الاعتدال والمنهجية المتوازنة والانفتاح.
كيف لنا أن نلوم الدول العربية حين تقذف بفلسطين إلى باحاتها الخلفية؟ ونحن بتمزيقنا وصراعاتنا المحتدمة لسنين عشر عجاف حتى الآن قد أعطيناهم مفتاح خزانة الطعن فينا، ونحن بفرقتنا وافتتاننا بالسلطة والهيلمان والاستقرار الوهمي قد أطلقنا الرصاص على حيوية القضية ونضالية الشعب.
لن يتفاءل الشعب الفلسطيني مطلقا بقادم الأيام إن كان المطلوب هو النظر في سياسات (ترمب) أو الأمة الإسلامية أو الأمة العربية، ولن يتفاءل هذا الشعب إن كان يرى في إدارة وسياسات فاشلة لقيادته مشعل الأمل الوحيد، وهي التي أضاءت مشعل الفرقة وأطفأت الأمل، ولكنه شعب مزق سجلات التاريخ المزور وصنع منذ الأزل صلابته كصلابة صخور فلسطين العربية حيث أقسم بالله ثلاثا أنه سيظل مناضلا ثائرا متوقدا، لأن في عيون كل شبل وكل زهرة مشعل الانتصار القادم بإذن الله.