لحظة مهمة في التاريخ الفلسطيني هي توقف حرب دامية استمرت لعامين، قتلت خلالها إسرائيل عشرات الآلاف من الفلسطينيين وهجّرت أعداداً كبيرةً منهم ودمرت ممتلكاتهم، في حين تحول قطاع غزة إلى كومة من الركام ومنطقة غير صالحة أبداً للعيش.
عامان من الحرب لم تتمكن إسرائيل خلالهما من تحقيق أهدافها بالقضاء على حركة "حماس" واستعادة ما تبقى من أسراها، ولم يتبق سوى خيار الذهاب إلى مفاوضات لوقف الحرب، غير أن الولايات المتحدة الأميركية مارست ضغوطات في وقت مدروس لتحويل الحرب إلى اتفاق وقف إطلاق للنار.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لم يكن معنياً بإنهاء الحرب إلا بناءً على سيناريوهات وضعها مع جهازه العسكري، تتصل بالقضاء التام على "حماس" واستعادة جميع الأسرى الإسرائيليين بالقوة، وضبط إيقاع غزة وفق المصلحة الإسرائيلية.
هو يرغب بذلك لأنه يريد إلهاء جمهوره الإسرائيلي بنصر يخفف من الانتقادات التي تتهمه بعدم تحقيق الأمن والأمان للإسرائيليين خصوصاً في مناطق غلاف غزة، ناهيك عن تهم الفساد التي ما تزال تحوم حوله وتهدد عرشه.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب طرح خطة لتنفيذ اتفاق غزة، جرى الحديث كثيراً عن مرحلتها الأولى لكن لم تشمل تفاصيل المراحل اللاحقة، ويبدو أن ترامب كان يسابق الزمن للوصول إلى اتفاق سلام تاريخي يكسبه الفوز بجائزة نوبل التي يحلم بها منذ وصوله إلى السلطة.
المرحلة الأولى من الاتفاق تشمل وقفاً لإطلاق النار وانسحاباً إسرائيلياً تدريجياً من مناطق متفق عليها، والأهم إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين مقابل إطلاق سراح أكثر من 1700 أسير فلسطيني يقبعون في سجون الاحتلال.
لم يجر الخوض بالتفصيل حول موضوع مستقبل حركة "حماس" من الناحيتين السياسية والعسكرية، لكن على الأغلب أن الحركة ستغادر موقع قيادة قطاع غزة، ليس في المرحلة الأولى من الاتفاق ولكن بعد أن يجري التوافق على الجهة التي ستحكم غزة.
إسرائيل لا تريد أن يكون هناك أي دور للسلطة الفلسطينية، و"حماس" منسجمة مع فكرة تشكيل قيادة من الفصائل الفلسطينية، وأما الإدارة الأميركية فهي تميل إلى صيغة حكومة فلسطينية مؤقتة من التكنوقراط تدير القطاع تحت إشراف دولي مع إشراف مجلس سلام عالمي برئاسة ترامب الأميركي.
كذلك هناك نقطة خلافية تتصل بدور إسرائيل الأمني والعسكري في قطاع غزة بعد الانسحاب، إذ تحبذ تل أبيب تواجد قواتها في محيط غلاف غزة وتطويقه من جميع الاتجاهات ومنع أي تواجد فلسطيني سكاني قريب من الحدود.
تفاصيل كثيرة لم يجر الخوض فيها، وهي متروكة للمراحل اللاحقة، لكن وبحكم التجربة في المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية يُلحظ أن الشياطين تكمن في التفاصيل، وعلى الأغلب أننا سنشهد مفاوضات ماراثونية طويلة معقدة.
حالياً الجميع مبتهج بالوصول إلى اتفاق لوقف النار، ولا شك أن الرئيس الأميركي سيطير إلى مصر لالتقاط صورة جماعية من اجل الحديث عن هذا الإنجاز التاريخي لسنوات طويلة، وإسرائيل ستسعى لتسويق هذا الاتفاق على أنه انتصار دبلوماسي وعسكري لها.
كل هذا في كفة والشعب الفلسطيني في كفة أخرى، فهو الوحيد الذي ضّحى وعانى وعاش الأمرّين من ويلات هذه الحرب، ويستحق أن يشعر بالفرحة والراحة التي حرم منها لعامين، والأهم أنه يحتاج إلى فرحة دائمة تلبي تطلعاته في سلام وأمن واستقرار.
المشكلة أن إسرائيل لا تحترم الاتفاقيات بدليل أن الدولة الفلسطينية كان يفترض أن تقوم بعد اتفاق أوسلو بخمسة أعوام لكن لم يحصل ذلك، ناهيك عن أن كل المستوى السياسي في إسرائيل هو ضد الدولة الفلسطينية المتصلة ويعمل كل الوقت على إجهاض قيامها.
الخشية أن يكون الاتفاق استراحة محارب، لأنه لا يجيب على سؤال (وماذا بعد حكم قطاع غزة؟)، هل هناك سلام يُمهّد لإقامة دولة فلسطينية؟ إسرائيل تفشل كل المحاولات التي تنادي بقيامها، والولايات المتحدة منسجمة مع الموقف الإسرائيلي.
نعم الاتفاق مهم لكن ينبغي المراكمة عليه، والتعويل على الزخم الدولي الذي يناصر القضية الفلسطينية ويساندها في مسألة حق تقرير المصير. جوهر الصراع الأساسي أن إسرائيل احتلت فلسطين وتحرم سكانها من أبسط حقوقهم المشروعة.
هذه فرصة تاريخية مهمة لتجاوز اتفاق وقف إطلاق النار بالتركيز على سلام استراتيجي يترجم مبدأ حل الدولتين. معظم أوروبا تنادي بالدولة الفلسطينية وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، وما يجدر الانتباه له السياسية الإسرائيلية المتعمدة في إفشال السلطة الفلسطينية ومنع قيام دولة بلحم ودم.
الشعب الفلسطيني لا يحتاج فقط إلى اتفاق تهدئة، بل هو بحاجة إلى حرية التنقل والحركة واستقرار وأمن وأمان. نعم هو بحاجة إلى وطن يحضنه بقوة أبنائه، وليس دولة احتلال بوليسية تمارس ضده سياسة التطهير والتهجير.
(سلام) ترامب ليس السلام الذي ينشده العالم
02 أكتوبر 2025