المحصّلة التي يمكن لعاقل أن يخرج بها من الزيارة التاريخية، وهي تاريخية بالفعل، التي قام بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب للمنطقة، تبدد أي تفاؤل، ولا تعطي مجالاً لأحد بأن يبرر لنفسه أي قدر من التفاؤل، أو الحرية في اختيار البدائل.
صحيفة "الحياة" اللندنية تحدثت عن أن نتائج الزيارة ليست نهاية الخط وأن الرئيس الأميركي يفكر في طرح مبادرة سياسية لتحريك عملية التسوية، خلال شهر، وترجح أن تعتمد الإدارة الأميركية آلية الصفقات المنفصلة إزاء معالجة الملفات المطروحة والمختلف عليها بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ربما يحصل ذلك، وربما لا يحصل، إذ لا يمكن الارتكان على قراءة معقولة لسياسات ومواقف متبدلة كل الوقت وتتسم بالغموض السلبي وليس البناء.
قد لا يكون أمام السلطة الفلسطينية خيارات فالاستمرار في السعي نحو المفاوضات وتحقيق السلام، في ضوء انحياز أميركي مطلق لسياسة إسرائيلية ترفض أية حلول على أساس رؤية الدولتين، هذا الاستمرار ينطوي على مخاطرة، ولكن رفض هذا الخيار ومواجهته هو خيار ينطوي على مخاطرة. لذلك ليس أمام السلطة سوى أن تكون جزءاً من الموقف والتحرك العربي والإسلامي، عسى أن ينتج عن ذلك إرادة عربية، وصمود عربي وإسلامي، لتطبيق مبادرة السلام العربية، وفق المفهوم والآليات التي يتبناها العرب.
إذا كان هذا هو الحديث المتاح عن لاحق الزمان القريب، فإن محاكمة الوقائع التي انطوت عليها "الزيارة التاريخية"، قد تشير إلى ذوبان الثلج، لتظهر صحراء قاحلة جرداء بدلاً من ظهور المرج.
الخلاصة أن ترامب الذي عاد من الرياض مدججاً بكل أنواع المكافآت والإغراءات، والمغانم، والهدايا، قد ترك انطباعاته الإيجابية قبل أن يصعد إلى سلم الطائرة التي أقلته إلى تل أبيب. لكأنه مختطف يعود إلى حضن أمه، تصرف ترامب في إسرائيل وأمام كاميرات الإعلام بطريقة مرتاحة جداً، فلقد أصبح في البيت، ولا داعي للتكلف، أو البروتوكولات الشكلانية.
لم يطرح الرئيس الأميركي، اية مبادرة، وأبدى أسفه وتعاطفه مع التلاميذ الإسرائيليين، الذين تعكّر صفوهم صواريخ "حماس"، و"حزب الله"، والشعب اليهودي متجذر في القدس، التي أدى فيها الطقوس اليهودية حين زار حائط البراق.
نتنياهو أبدى رضا غامرا عما سمعه من ضيفه، الصديق الأقوى، والذي تعهد بأن تواصل بلاده دعم تفوق إسرائيل على كل من يحيط بها. صحيح أنه امتنع عن إعلان أي قرار فيما يتعلق بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، ولكنه أيضاً امتنع عن الأدلاء بأي كلمة حول رؤية الدولتين، وحق تقرير المصير، وأي حق من حقوق الفلسطينيين.
المهم أن الرئيس محمود عباس، عاد وكرر ما سبق أن أعلنه في واشنطن حين زارها، وما يكرره في كل المحافل، من انه يتمسك بالثوابت الفلسطينية، الأمر الذي يبرئ ساحته أمام الاتهامات التي يتعرض لها من المعارضة الفلسطينية بالتفريط والتنازل، والبعض يذهب إلى التخوين.
حتى مغادرته تل أبيب إلى دولة الفاتيكان حققت الولايات المتحدة أكثر مما كانت تتوقع، وأكثر مما تستحق، مقابل كلام فارغ عن الإرهاب والتطرف، والخطر الإيراني، وحققت إسرائيل ما تريده في هذه المرحلة وهي في سبيلها لتحقيق نجاحات فعلية على صعيد علاقاتها مع العرب، والمسلمين دون أن تدفع ثمن ذلك أو حتى أن تتعهد بدفع الثمن، في ملف الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي.
في هذا الإطار حصلت إسرائيل على مكافأة متكررة، تبرر لها ارتكاب المزيد من الجرائم البشعة بحق الفلسطينيين. أن يكرر ترامب وصف حركة حماس بأنها جماعة إرهابية ينطوي على أبعاد خطيرة تتخطى، إطلاق التوصيف ذاته في مراحل سابقة، وقد حصل. تتجاوز خطورة هذا التوصيف، الأبعاد الأخلاقية، فلقد انهارت مثل هذه القيم، في سياسات الدول التي تدعي الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان والشرائع الدولية.
يتجاهل ترامب، وكل من يناصره ويتبنى قيمه جرائم الحرب التي ارتكبتها وترتكبها إسرائيل بحق القضية والشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة. يصبح من يقاتل من أجل تحرره وحقوقه في مواجهة محتل غاصب، إرهابياً، ويتحول المحتل الذي يمارس إرهاب الدولة العنصرية، مدافعاً عن حقوق الإنسان وعن السلام والأمن.
لا تخرج المقاومة الفلسطينية عما تقره الشرائع الدولية، للشعوب التي تناضل من أجل تحررها، وطرد الاستعمار، ولكننا قد نختلف معها إزاء اختيار الشكل النضالي المناسب في الوقت والظروف المناسبة.
في ظل الأوضاع السائدة عالمياً وإقليمياً، وعلى صعيد الصراع مع الاحتلال، فإن أسلوب المقاومة الشعبية السلمية، هو الأكثر جدوى، والأقل تكلفة من استخدام السلاح. ولكن هذا شيء، واتهام المقاومة بالإرهاب شيء آخر ينطوي على إجحاف ما بعده إجحاف وظلم ما بعده ظلم. ولعل اتهام "حماس" بالإرهاب ومطالبة السلطة بوقف صرف مخصصات عائلات الشهداء والجرحى والأسرى، يذهب إلى شطب كل مسيرة النضال الوطني الفلسطيني، وتاريخ الثورة المسلحة فإن كان المعيار استخدام الكفاح المسلح فإن هذا المعيار ينسحب على ما سبق، ويبرئ ساحة إسرائيل من الجرائم التي ترتكبها منذ أن تأسست ومن قبل أن تتأسس.
المهم في هذا الإطار، أن يرفض العرب والفلسطينيون، هذا التصنيف وهذا الإجحاف، ذلك أن مجاراة الإدارة الأميركية، تعني اندلاع حرب أهلية فلسطينية، وتعني تدمير إمكانيات الشعب الفلسطيني، وكل ذلك يخدم المخططات الإسرائيلية.
من الواضح أن الولايات المتحدة، ستضغط على السلطة الفلسطينية للقيام بدورها فيما تسميه محاربة الإرهاب، ذلك أن الالتزام بمحاربة الإرهاب وفق الفهم الأميركي الإسرائيلي، لا يعني أن السلطة عليها أن ترسل مقاتلين إلى الموصل أو الرقة لمحاربة "داعش"، وإنما عليها أن تفعل ذلك في ساحتها الداخلية. غير أنه يترتب على الفلسطينيين أن يدركوا أبعاد ما يجري من حولهم، وألا يواصلوا العناد على ما هم عليه من انقسام، وتمسك بالمصالح الفصائلية وبإمكانهم أن يستدركوا الأمر، وأن يدفعوا الثمن قبل أن يدفعوه مضاعفاً بعد فترة ليست بعيدة. وعليهم أن يدركوا أنهم كانوا سيدفعون ثمناً أقل لو أنهم فعلوا ذلك، ووضعوا حداً للانقسام، في ظروف وأوقات سابقة. في مقال لاحق سأتحدث عن المطلوب بأمانة وطنية، وبوضوح كاف.