زيارة ترامب: الدلالات والنتائج الأولية والآفاق

د. عبد المجيد سويلم.jpg
حجم الخط

على الرغم من إجماع المراقبين على عدم "تبلور" تصوّر أميركي حتى الآن عن مضمون "الصفقة" وآليات الوصول إليها، إلاّ أن الاستنتاج باستحالة الوصول إليها قد يكون موقفاً متعجلاً وتنقصه الأسانيد الكافية.
أما الربط ما بين صعوبات هذه الصفقة وانعدام فرصتها في التحقق فهو ينطوي على درجة معيّنة من الصحة ولكن على درجة أقل من الدقة.
وهناك الكثير من الفرضيات التي يتم الاعتماد عليها للاستنتاج باستحالة هذه الصفقة في المدى المنظور دون التمعن والتمحيص الكافيين في الديناميات التي تجعل هذه الفرضيات متحركة وقابلة للتطور والتحول في نفس الأبعاد الزمنية لذلك المدى، ناهيكم طبعاً عن تأثيرات الأحداث الداهمة والمباغتة على "حركية" هذه الافتراضات.
دعونا نجر الموازنة التالية للخروج بمقاربة ممكنة أو للتحقق من إمكانية هذه المقاربة.
فإذا قلنا إن الحكومة الحالية في إسرائيل هي العقبة الكأداء الأكبر في وجه "الصفقة" التي يتم الحديث عنها أو الإعداد والتمهيد للخوض في مضمونها، وفي آليات الوصول إليها، فإن هذه الفرضية بالذات على صحتها إلاّ أن إمكانية تغيرها هي إمكانية واردة وممكنة بل ويمكن أن نقول إنها متوقعة عند درجة معينة من إنضاج التصور الأميركي.
وإذا عرفنا أن ترامب بات على قناعة بأن العالم العربي والإسلامي مستعد للانخراط الكامل في حلف استراتيجي مع الولايات المتحدة لمواجهة إيران والإرهاب والتطرف، وان القضية الفلسطينية ستظل مشكلة لهذا الحلف إذا بقيت من دون حل معقول، وان حلها سيفضي إلى ترسيخ هذا الحلف بصورة نهائية وبما يؤشر على انتصار استراتيجي في هذا الإقليم للولايات المتحدة وللغرب بما في ذلك (إسرائيل) فإنه (أي ترامب) لن "يخضع" "للضغوط" اليمينية الإسرائيلية ولن ينكسر أمامها بالسهولة التي انكسر بها رؤساء سابقون عليه، خصوصاً وأن الرئيس الأميركي الجديد ليس محكوماً بالكامل لاعتبارات "المؤسسة" الأميركية التقليدية بعد أن تمكّن من هزيمتها في الواقع.
صحيح أن الرئيس الأميركي يبحث عن صيغ جديدة قد لا تكون الدولة الفلسطينية المستقلة على أساس "حل الدولتين"، لكن الرئيس ترامب في نهاية المطاف لا يمكن أن يتنصل بالكامل من الشرعية الدولية والقانون الدولي وهو الأمر الذي سيضعه إن آجلاً أو عاجلاً في مواجهة الحكومة الإسرائيلية.
ومهما كانت درجة انحياز الرئيس الأميركي لإسرائيل فإن تناقضه مع المشروع الوطني الفلسطيني والذي ينسجم بالكامل مع الشرعية الدولية والقانون الدولي لا يمكن أن تساوي أو توازي درجة تناقضه مع المشروع الإسرائيلي والسياسات الإسرائيلية، وهو الأمر الذي سيؤدي حتماً إما إلى فشل الحل بالكامل إذا تمكنت إسرائيل من ليّ ذراع ترامب، أو إلى إزاحة اليمين المتطرف من موقع القرار فيها لإفساح المجال أمام قوى سياسية واجتماعية مستعدّة للانخراط في عملية سياسية أكثر جدية من مسار هذه العملية في السنوات الأخيرة.
فهل سيكون بإمكان إسرائيل أن تعادي أو تخاصم ترامب كما عادت وتخاصمت مع أوباما؟، وهل يمكن أصلاً أن تتحمل إسرائيل مثل هذه المغامرة بل والمقامرة؟
الجواب الذي أراه: لا، بوضوح تام.
ولهذا كله فإن استحالة الصفقة أصبحت من الناحية الموضوعية مرتبطة قبل كل شيء بقدرة حكومة التطرف اليميني في إسرائيل على مواجهة ترامب والغرب والمجتمع الدولي.
لا تستطيع إسرائيل أن تقود سيارتين في نفس الوقت. سيارة الانخراط في الحلف الجديد وسيارة الإبقاء على الاحتلال وعدم الاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وفي مطلق الأحوال فإن المجتمع الإسرائيلي نفسه سيتغيّر باتجاه البحث عن حل سياسي إذا ما خُيّر بين البقاء تحت طائلة مساءلة المجتمع الدولي أو الخروج من هذه الحالة والانخراط الكامل في المنظومات الإقليمية التي يتم الحديث عنها.
وفي الوقت الذي يستمر فيه اليمين الإسرائيلي المتطرف ببيع نفسه المزيد من الأوهام بالحديث عن حصانة سياسية يوفرها له ترامب والحزب الجمهوري، تتكشف الأوراق كل يوم من أن هذه الأوهام لن يطول الوقت على كشف زيفها، وأن معظم هذه الأوهام باتت مكشوفة حتى منذ الآن.
ومهما كان ضعف الواقع الفلسطيني، ومهما كانت المواقف العربية والإسلامية إعلامية وإعلانية في الكثير من مظاهرها فإن مراهنة إسرائيل على هذه الوقائع لا يمكن أن يؤمّن لها قيادة السيارتين في الوقت نفسه.
وعند درجة معينة من تطور الواقع سيحل الاستحقاق الذي ستدفعه إسرائيل أو اللحظة التي لن يكون بمقدورها التنصل من دفعه، وحينها فإن معاندة الوقائع "العنيدة" لن تكون سوى مغامرة فيها الكثير من السمات الانتحارية على الصعيد السياسي وعلى صعد أخرى كثيرة.
قد لا تكون الصفقة سريعة، وقد لا يكون "حل الدولتين" بالمعنى الذي نعنيه اليوم هو الصيغة الواحدة والوحيدة، إلاّ أن هذه الصيغة لا يمكن أن تكون خارج نطاق الحقوق الوطنية الجوهرية للشعب الفلسطيني، ولن تكون سوى الطريقة والصيغة المناسبة لتحقيق الشرعية الدولية وإرساء القانون الدولي في معادلة الصراع.
وحتى يصل الشعب الفلسطيني إلى تلك النقطة فإن عملاً هائلاً بانتظاره على مستوى وحدته الداخلية، وعلى مستوى الارتقاء لكل بنيانه الوطني، وعلى مستوى الاستعداد الدائم لمواجهة الاحتلال بكل السبل والوسائل المتاحة والمنسجمة مع القانون الدولي ومع المجتمع الدولي.
في المعركة السياسية القادمة الضغط على المشروع الوطني الفلسطيني هو في الوسائل أما الضغط على المشروع الإسرائيلي فهو على الجوهر والمضمون والسياسات.
ميزان القوى المائل والمختل بصورة كبيرة وخطرة لصالح إسرائيل يجعلنا، أو يجعل بعضنا في وضع يائس من إمكانية الانتصار، لكن نقاط قوة المشروع الوطني المدعوم بالبناء الوطني كبيرة وكثيرة وفي بعض الأحيان أخالها هي الحاسمة.
لذلك دعونا نتمهّل في الحكم على الدلالات والنتائج والآفاق لهذه الزيارة.