في شهر حزيران من العام 2009، اختار الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما جامعة القاهرة لإلقاء خطابه عن حالة عدم الثقة التي تشوب العلاقات بين المسلمين والولايات المتحدة، وعلى أرض مصر بعث رسائل كثيرة عن ضرورات محاربة الإرهاب وإيجاد فرص لتحقيق تسوية ممكنة في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
الرئيس الجديد دونالد ترامب اختار السعودية هذه المرة لنقل رسائله إلى العالم العربي والإسلامي، وعلى منبرها دعا إلى تضافر كافة الجهود لمحاربة التنظيمات الإرهابية، ومن ثم حط في مطار بن غوريون والتقى بصديقه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ثم الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
زيارة ترامب التي استغرقت أكثر من أسبوع، شملت عدا السعودية وإسرائيل وفلسطين، كلا من الفاتيكان وإيطاليا وبلجيكا، لكن الرئيس الأميركي حرص في زيارته إلى تل أبيب، على تقديم كل الدعم الممكن للحكومة الإسرائيلية وتطمينها بالعلاقات الاستراتيجية التي تجمع البلدين.
ترامب الذي استعجل الدخول في ملف الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي فور استلامه الحكم، بدا حريصاً على عدم الانزلاق في الحديث عن التفاصيل خلال زيارته، فهو يدرك جيداً أن الدخول في التفاصيل يعني وجود الشيطان، وهذا أمر قد لا يعجب الطرف الفلسطيني ويثير حفيظة شريكه الإسرائيلي.
أي أن الرجل حين استقبله نتنياهو بحفاوة بالغة، وشعر أنه فعلاً في بيته الثاني، فضل في خطابه الالتزام بالنص وعدم الخروج عنه، الأمر الذي دفعه للحديث في أمور فضفاضة عامة، مثل استعداده للعمل بقوة من أجل تحقيق السلام في الشرق الأوسط.
لم يأت ترامب بالذكر لا من قريب ولا من بعيد على موضوع الدولة الفلسطينية، ولم يتحدث أيضاً عن نقل سفارة بلاده إلى القدس، وفي حين يخوض الأسرى الفلسطينيون إضراباً مفتوحاً عن الطعام، احتجاجاً على التعسف الإسرائيلي ضدهم، لم يذكر الرئيس الأميركي هذا الموضوع ولم ينبس ببنت شفة.
في زيارته الرسمية إلى إسرائيل، ذهب الرئيس الأميركي يرافقه صهره اليهودي جاريد كوشنر الذي فوضه مبعوثاً للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بالإضافة إلى زوجته وابنته إيفانكا التي اعتنقت اليهودية بعد زواجها من كوشنر، جميعهم ذهبوا الى حائط البراق في القدس المحتلة.
بطبيعة الحال تشكل زيارة الرئيس الأميركي إلى حائط البراق علامة مهمة على مدى اهتمامه بعمق العلاقات التي تربطه مع إسرائيل، وهو حين يفكر بالتركيز على إيجاد تسوية ممكنة للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، فإنها بالتأكيد ستكون على حساب الفلسطينيين.
لم يقل ترامب أي شيء عن موضوع الاستيطان الإسرائيلي المتواصل، وفضّل توجيه كلماته إلى موضوع الإرهاب ونحو إيجاد تحالف دولي لمواجهته، يشمل ذلك دول الاتحاد الأوروبي وحلفاء الولايات المتحدة الأميركية.
في الموضوع الإيراني طمأن الرئيس الأميركي نتنياهو بأن طهران لن تمتلك السلاح النووي، وأكد للأخير تفوق إسرائيل أمنياً وعسكرياً، حيث ترجم ذلك بتقديم مساعدات عسكرية بقيمة 75 مليون دولار، تضاف إلى برنامج الدفاع المضاد للصواريخ.
وفي حين دعا ترامب حلفاءه إلى زيادة الإنفاق على الأمن ومحاربة الإرهاب، فإن إسرائيل ربما الدولة الوحيدة المستثناة من أسلوبه الجديد للجباية، بل إنها تحظى بالدعم الأميركي المادي والعسكري منقطع النظير، بدليل أن صفقة تاريخية بلغت قيمتها 38 مليار دولار، استهدفت زيادة المساعدات الأميركية العسكرية لإسرائيل في عهد أوباما الذي وصفت علاقته بالمتوترة مع نتنياهو.
إذا كانت العلاقة متوترة فعلاً بين أوباما ونتنياهو والأول وافق على هذه المساعدات السخية، فما بالنا بترامب الذي تربطه علاقات ودية وشخصية مع نتنياهو ومختلف أركان حكومته، وهو الذي ظل يتغزل بإسرائيل سواء قبل توليه المنصب الرئاسي أو بعده.
لقد اكتفى الرئيس الأميركي الإشادة بنتنياهو وحكومته، ووصف حركة "حماس" بالتنظيم الإرهابي ودعا السلطة الفلسطينية إلى محاربة الإرهاب، في إشارة صريحة إلى أن المطلوب محاصرة الحركة وعدم التعامل معها لا من قريب ولا من بعيد. كما أبدى تفهمه لقلق المستوطنين من قذائف "حماس".
في المحصلة يجوز القول إن زيارة ترامب إلى فلسطين وإسرائيل لا تصنف على أنها زيارة أمل، خاصةً وأن الرئيس الأميركي لن يقدم أكثر من المبادرة العربية التي طرحتها السعودية في القمة العربية التي انعقدت عام 2002 ببيروت.
المبادرة التي طرحت في أكثر من مناسبة، رفضتها إسرائيل جملةً وتفصيلاً، لكونها تدعو إلى قيام دولة فلسطينية وانسحاب إسرائيلي من كامل الأراضي التي احتلتها في حزيران 1967، بما فيها القدس الشرقية وهضبة الجولان، فضلاً عن إيجاد حل لمشكلة اللاجئين.
هذه المبادرة التي قبلتها السلطة الفلسطينية والعرب مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل، لا يمكن لشخص مثل ترامب أن يعيد طرحها إلى الواجهة، طالما ترفضها إسرائيل وتعتبرها في غير صالحها، وبالتالي فإن سقف تطلعات الرئيس الأميركي للتسوية في منطقة الشرق الأوسط، ستكون خالية من الدسم، أو أنها في أحسن أحوالها أقل دسماً من محتوى المبادرة.
وبصرف النظر عن عدم وضوح استراتيجية ترامب إزاء ملف الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، إلا أنه لن يجازف في توتير علاقته بتل أبيب، ومن غير المستبعد أن يطلق بالونات في الهواء تعكس موقفه الإيجابي من عملية السلام، بدون أي تحرك فعلي على الأرض.
الحاضر في السياسة الأميركية هو فن تضييع الوقت، ذلك أن عامل الوقت كلما أعيد تجديده واستهلاكه فإنه يخدم أكثر السياسات الإسرائيلية، وحينها لن تكون واشنطن قادرة على تقديم أي شيء، لأن الوقائع ساعتها ستكشف عن استحالة قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة.
إسرائيل مستفيدة من الانقسام الفلسطيني، ولا ترغب في هذا الوقت بالتفاوض مع السلطة الفلسطينية، طالما وأن المجتمع الدولي لا يبدي اهتماماً كبيراً بالقضية الفلسطينية في ظل تزاحم الأجندات، وفي ظل تصاعد الدعوات لإيجاد آلية دولية للتعامل مع الإرهاب بحزم.
حين يقول ترامب من أمام حائط البراق إن صلاة اليهود في هذه الأرض قديمة وأبدية وتعود إلى آلاف السنين، فهو يعني ذلك حتماً ويدرك أن الفلسطينيين لن يجنوا من الشوك العنب، فهذه طبيعة السياسة الأميركية: تقول قولاً جميلاً، وتبدأ الخوازيق بعد حين.