"شرق أوسط جديد"… وفلسطين اولا

29qpt698.jpg
حجم الخط

 

انتهت زيارة الرئيس الامريكي (وعائلته) واركان ادارته الجديدة الى المنطقة، وبدأ انقشاع غبار الاستقبالات ودخان القمم الخمس، ثلاث منها في السعودية، وواحدة في اسرائيل، وخامسة على ارض الدولة الفلسطينية المحتلة. وقبل ان تصبح احداث هذه الزيارة مجرد ذكريات، بل وربما لمنع تحول مجرياتها الى مجرد احداث مضت وذكريات، يصل الى المنطقة، وتحديدا الى اسرائيل وارض الدولة الفلسطينية، مبعوث الرئيس الأمريكي الى الشرق الاوسط، جيسون غرينبلات.
ايفاد ترامب لغرينبلات بهذه السرعة، يشكل اشارة اولى الى اسرائيل وفلسطين، بان الرئيس الأمريكي في عجلة من امره، وان تشكيل «شرق اوسط جديد» يحتل في جدول اعماله، كرئيس للقطب الاكبر والاقوى في العالم، مرتبة متقدمة جدا.
من السذاجة الاعتقاد ان وراء هذه السياسة الأمريكية دافعا واحدا فقط، هو الهروب من مشاكل وعقبات اميركية داخلية تتراكم وتتزايد، تواجهها الادارة الأمريكية، مثل «التدخل الروسي في مجريات الانتخابات الأمريكية»، وقضايا «تسريب» معلومات سرية حول مخططات لداعش بتفجير طائرة مدنية وهي في الجو، بعبوة متفجرة مخبأة في بطارية جهاز كمبيوتر محمول، او «تسريب» معلومات سرية الى الرئيس الفيلبيني، عبر اتصال هاتفي، بوجود غواصتين نوويتين امريكيتين قرب شواطئ كوريا الشمالية، يُفترض ان يكون موقع تواجدها سرا لا يجوز البوح به. او يكون دافع ترامب رغبة غير منطقية باحراز سريع لجائزة نوبل للسلام، على غرار ما حصل للرئيس الأمريكي السابق باراك اوباما.
مخطئ كذلك من يعتقد ان ما يواجهه ترامب وادارته في واشنطن من مشاكل وعقبات داخلية، وصلت حد نشر بعض الصحف الأمريكية لانباء عن بدء التحدث عن امكانيات دراسة رفع قضية لتنحية الرئيس الأمريكي عن منصبه، لا تشغل بال الرئيس الأمريكي. هذه قضايا مقلقة لسيد البيت الابيض. لكنها لا تصل، باي حال من الاحوال، حد شل الادارة الأمريكية الضخمة، بكل المقاييس، ورهن تحركاتها السياسية، وغير السياسية ايضا، بهذا الملف، او حتى باي ملف آخر، مهما علا شأنه.
تكرس الربط بين حل الصراع الفلسطيني الاسرائيلي والصراع العربي الاسرائيلي، بشكل رسمي ونهائي معلن، في «المبادرة العربية» التي طرحتها السعودية، وصادقت عليها وتبنتها القمة العربية في بيروت في العام 2002.
لا حاجة لعين مُدقّقة، ولا لعدسة تكبير وتوضيح لما بين السطور، لكشف التناقض بين رؤية الفلسطينيين والعرب والأمريكيين (مؤخرا) والعالم بشكل عام، لانهاء الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، والصراع العربي الاسرائيلي، وبين ما يقوله ويصرح به بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الاسرائيلية الاكثر يمينية وتعصبا وعنصرية في اسرائيل، منذ النكبة الفلسطينية عام 1948 حتى الآن.
كلما ذكر الرئيس الأمريكي، دونالد ترمب، الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، واتبع كلامه عن الصراع العربي الاسرائيلي، جاء رد نتنياهو مناقضا لهذا الترتيب، ومتحدثا عن «السلام» العربي الاسرائيلي، ويأتي في نهاية الفقرة ذكر انهاء الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، ومشروطا بشروط لا يمكن القبول بها ايضا.
قصة هي اشبه ما تكون بقصة القط والفار، او قل قصص وطرائف الميكي ماوس المسلية للصغار والكبار على حد سواء.
نتنياهو، ومعه حكومته اليمينية الموغلة في التطرف والعنصرية، يريدون ويخططون ويأملون في الوصول الى العالم العربي، والتطبيع والتصالح وبناء علاقات سياسية واقتصادية معه، قافزين عن الجسر الفلسطيني، ومحاولين التهرب من دفع الاستحقاقات المترتبة على الاستعانة بهذا الجسر/الممر الاجباري. 
ما يسعى الفلسطينيون والعرب والعالم اليه، هو باختصار: شرق اوسط مستقر، يحاول اللحاق بركب عالم مزدهر، عالم سريع التحوُّل والتغيُّر والتطور، بوتائر لا سابق لها في التاريخ البشري. ومن المفارقات المحزنة، انه في حين نرى علماء ومخترعين ومبتكرين في اسرائيل، يساهمون بشكل هائل وواضح، مثير لمشاعر التقدير والغيرة، بل وربما الحسد ايضا، في المجالات العلمية والتقنية العالية، التي تدفع العالم خطوات واسعة الى الامام، نلاحظ في المقابل، على الصعيد السياسي، تقوقعا اسرائيليا في مربعات ودوائر عنصرية مقيتة، تُطبّق باسلوب عصري متطور، سياسات تُذكّر بممارسات عنصرية لافريقيا الجنوبية في الأسوأ من ايام الابارتهايد، والتي عفا عليها الزمن.
آخر ما يتعلق بنا ويهمنا من تعليقات واخبار تناقلتها وسائل الاعلام امس الاول، وذات علاقة بزيارة ترامب الى المنطقة، كان تصريحا لوزير الخارجية الأمريكي، ريكس تيلرسون، للصحافيين المرافقين للرئيس الأمريكي في الطائرة الرئاسية في رحلتها الى بروكسل، حيث صرّح: «ان حل الصراع الاسرائيلي الفلسطيني يشكل بداية المسيرة لحل مشاكل الشرق الاوسط قاطبة». هذا اعتراف امريكي صريح بما قاله ويقوله الفلسطينيون منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي. وما كرره القادة العرب في قمة بيروت، وما اكده الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قبل شهرين، وما قاله الرئيس الباكستاني الاسبق، نواز شريف، قبل اكثر من عقد، من ان انجاز حل عادل للقضية الفلسطينية «ينهي 95 في المئة من القضايا العالمية الشائكة».
حين تقتنع الادارة الأمريكية بحقيقة ان مفتاح حل قضايا الصراع في المنطقة، وربما في العالم، كما قال نواز شريف، واهم من ذلك: حين تعلن الادارة الأمريكية اقتناعها بهذه الحقيقة، يصبح توقع ان نكون على عتبة باب «شرق اوسط جديد»، ليس مجرد واحد من احلام اليقظة.
كذلك، حين يكون في البيت الابيض الأمريكي، وفي واشنطن، «عاصمة اسرائيل الحقيقية»، رئيس في غِنىً عن ملايين دولارات صهاينة اميركا واللوبيات الصهيونية فيها، وحين يكون هذا الرئيس يمينيا من الحزب الجمهوري، واكثر من ذلك: حين يكون الرئيس الأمريكي رجلا عصبي المزاج، ذا فتيل تفجير قصير، مثل ترامب، لا يصبح مفاجئا ان تكون اسرائيل، ورئيس حكومتها اليمينية العنصرية في حالة قلق بالغ، لا تنجح ابتسامات بنيامين وسارة نتنياهو وثرثراتهما على اخفائه.
عمر صراعنا مع الحركة الصهيونية مهول. يزيد على قرن من الزمان، مليء بالاحباطات، وعمر معاناتنا من الاحتلال الاسرائيلي يقارب سبعة عقود، وعمر ابتلائنا بالاستعمار الاسرائيلي يبلغ هذه الايام خمسين عاما. هذه الازمنة حفلت بالكثير من التشاؤم، وبالكثير الكثير من التفاؤل. كانت الغلبة، لسوء حظنا جميعا، وعلى مدى كل هذه الازمنة، من نصيب التشاؤم والمتشائمين. دعونا، رغم كل ذلك، نتفاءَل. هذا ليس عيبا.
لا يعني ما قلت اننا على باب انتهاء معاناتنا من اسرائيل والحركة الصهيونية. فهذه مأساة بطبقات متراكمة فوق بعضها البعض. لكننا، في اعتقادي على الاقل، على ابواب مرحلة جديدة تقلل العناء والمعاناة. و»اول القطر غيث… ثم ينهمر». او كما يلخصها الحكيم الصيني: «رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة».
في هذا السياق: اتردد كثيرا في ما سأقول. سبب التردد هو ما عرف عن (او يُتَّهم به) العرب، وانا واحد منهم، في كثرة التحدث عن «المؤامرة» في محاولة تفسير وتبرير هربهم من مواجهة الحقيقة، والاعتراف بمسؤوليتهم وتقصيرهم. رغم ذلك اقول: اليس هناك احتمال ان يكون لاسرائيل وللحركة الصهيونية، ذات الاذرع الاخطبوطية، في واشنطن وموسكو وعواصم دول العالم الاخرى، دور في الشِّباك التي تُنصب حول البيت الابيض وساكنه؟.

عن القدس العربي