في أحد أحياء المدن الصغيرة، سيّج مواطن بستانه الصغير، وعلق على السياج لافتتين: الأولى كتب عليها "وتعاونوا على البر والتقوى"، والثانية عبارة: "هذا الشيك ضد الكلاب والخنازير والسفهاء الجائعة".. وبما أن بستانه لا يحتوي إلا على بعض أشجار الفاكهة، وبالتالي لا ضرر من الكلاب عليها، والخنازير لا تتواجد في تلك المنطقة، ما يعني أن المقصود بعبارته الغريبة هم "السفهاء الجائعة"، أما إضافة "الكلاب" و"الخنازير" في نفس الجملة فبهدف جمعهم معاً ولتشبيههم بهم؛ الذين هم إما أطفال في غدوّهم ورواحهم إلى المدرسة، حيث يحب الأطفال من باب المغامرة واللعب "سرقة" حبات من اللوز، أو التين أو أية فاكهة تغري بقطفها.. وجميعنا مر بهذه التجربة، أو جائعون بالفعل، يبحثون عن أية لقمة تقيم أودهم.. وبحمد الله لم نصل في فلسطين إلى تلك الدرجة.. إذن، ما المغزى من اللافتة؟ بل وما المغزى من القصة؟
لا أبحث عن إدانة لهذا الشخص، ولا يهمني أمره؛ الموضوع إدانة لهذه العقلية التي تسعى لتجميل سوءاتها بغلاف ديني.. إذْ يظنُّ أصحاب هذه العقلية أن ممارسة بعض الطقوس والشكليات الدينية تعطيهم مبررا لارتكاب الأخطاء والتعديات، أو لفرض رؤاهم وتوجهاتهم على الآخرين.
وإدانة تلك العقلية التي تفهم الإسلام والتدين بطريقة خاطئة، حيث يعتقد أصحابها مثلا أنهم إذا اعتمروا بيت الله الحرام، أو صاموا النوافل وتبرعوا لبناء المساجد سيغفر الله لهم ذنوبهم التي ارتكبوها بحق الآخرين.
أو تلك الذهنية التي تفهم الإيمان بمنطق الربح والتجارة والحسابات الأنانية.. فمثلاً، في شهر رمضان يغدق الناس بصدقاتهم على الفقراء، ولكنهم، للأسف ينسونهم بقية أيام السنة! والسبب ببساطة أن الموضوع بالنسبة لهؤلاء ليس حبا بالفقراء، ولا إحساسا بهم، ولا شفقة عليهم، أو تعاطفا إنسانيا معهم؛ لأنه لو كان كذلك، لتواصلت الصدقات طوال العام.. ما يعني أن الدافع للتصدق هو الرغبة بالحصول على الأجر والثواب فقط.
قرأتُ قصة رجلٍ متدين يحسنُ لوالدته المسنّة، والسبب على حد تعبيره رغبة منه بالأجر والثواب (ليس حبا بها)، والغريب أنه يسيء معاملة حارس البناية الآسيوي، ويتأخر عن دفع أجرته الشهرية! ما يعني أن الإحسان عنده مسألة ربح وحسب.
في ليلة القدر كل عام، يتدفق على المسجد الأقصى مئات الآلاف من المصلين، من كافة الأعمار، ومن كل المدن والقرى.. وأيضا يأتون بهدف نيل الأجر والثواب.. وطبعا لا اعتراض على ذلك، بل هذا شيء محمود، لكنَّ نفس المسجد الذي يأتون لزيارته والتبرك فيه، والتقرب إلى الله سبحانه.. هذا المسجد الأقدس عند المسلمين، يتعرض لعمليات تهويد مستمرة، ومهدَّد بالتقسيم، كما حدث مع الحرم الإبراهيمي، ومهدد بالسقوط بسبب الحفريات التي تجري تحته، ويدنسه الجنود الصهاينة ويقتحمه المستوطنون بشكل شبه يومي.. ولا أحد يحفل بكل ذلك، لا أحد يدافع عنه سوى قلة من المرابطين!! ولو نادى المنادي لنصرة الأقصى لا يأتي إليه ربع أو أقل ممن يأتونه ليلة القدر!!
وبمناسبة شهر رمضان، من المهم معرفة أن الله سبحانه أراد لنا الصيام لغايات سامية؛ لتدريب النفس على التحكم بالشهوات، وللإحساس بالفقراء.. وما يحدث عمليا لا علاقة له بذلك؛ ففي رمضان تزداد حوادث السير بشكل كبير، وكذلك حوادث الشجار بين الجيران والأهل، التقاعس عن العمل، العصبية وضيق الخُلُق.. فأين التحكم بالنفس؟ وعند الإفطار، تتحول المائدة إلى بوفيه مفتوح، وبكميات مضاعفة.. فأين الإحساس بالفقراء إذن؟
في مجتمعاتنا "الإسلامية" يؤم الناس المساجد عدة مرات في اليوم، وبأعداد أكبر بكثير يوم الجمعة، يستمعون للدروس الدينية طوال الوقت، في المدرسة، والجامع، وحتى في البيوت، إذا لم يسمعوها من خلال سماعات المسجد، سيسمعونها في البرامج الدينية في التلفزيون والراديو وعلى صفحات الفيسبوك.. يعني نحن أكثر أمة في العالم تتلقى دروسا دينية وتستمع للمواعظ.. ومع ذلك، لنسأل أنفسنا:
لماذا داخل المسجد كل شيء نظيف ومرتب، والصفوف منتظمة، بينما الحمّامات قذرة، وعند المدخل فوضى الأحذية، وفوضى السيارات، وفوضى الباعة والمتسولين!! لماذا دعا الإسلام للنظافة، وربطها بالإيمان، بينما شوارعنا وأزقتنا وأماكننا العامة في غاية القذارة!! لماذا نتميز عن سائر الأمم بالغش والكذب وإضاعة الوقت، وعدم الالتزام بالمواعيد، والتهرب من العمل.. مع أن الدين يحث على مكارم الأخلاق.
والأخطر من كل ما سبق؛ لماذا معظم البلدان الإسلامية مبتلاة بالحروب الأهلية، والتفجيرات العشوائية، والصراعات المذهبية، والفتن الطائفية، والكراهية والتعصب!!!! لماذا تتميز بالتخلف والفساد والفوضى؟؟
إذا أردنا الإجابة بصدق وموضوعية عن هذه الأسئلة، ودون إجراء مقارنات مع دول أكثر تخلفا أو أكثر تقدما، ودون اللجوء لنظريات المؤامرة، وتحميل المسؤولية للاستعمار والصهيونية.. سنجد أن السبب ذاتي محض، يمكن تشخيص أكثر من عامل، من بينها التدين الزائف الشكلاني، الذي يركز على المظاهر الشكلانية، ويتجاهل جوهر الدين وروحه، فيعتقد الشخص المتدين هنا أنه أفضل من الآخرين، وأقرب إلى الله منهم، وأنه يحتكر الحقيقة، وعليه فرضها على الناس، بأية وسيلة، بما فيها العنف والقوة والقتل والتفجير..
والعامل الآخر يكمن في الخطاب الديني نفسه؛ في آلياته ومضامينه، بدليل انعدام تأثيره تقريبا في النواحي الإيجابية، وتأثيره الطاغي في النواحي السلبية، وتحديدا في إفشاء التعصب والكراهية والطائفية..
لا شك أن هناك أسباباً أخرى مهمة تفسر حالة التخلف التي نعاني منها.. ولكن الأحزاب السياسية (خاصة الدينية) تتحمل مسؤولية كبيرة؛ بخطابها الدوغمائي، وفهمها السطحي للدين، وأساليبها غير السوية، وبمقاصدها السياسية غير البريئة.
ماسك القهوة للوجه... لا تستهيني بفوائده لعلاج مشكلات البشرة
10 أكتوبر 2024