من شبه المتفق عليه بين أطياف العمل الفلسطيني أنّ محاولة المزاوجة بين السلطة ومرحلة حركة "التحرر" أدت لوقوع الفلسطينيين في فخ صعب، ويطالب البعض أن تطور الفصائل نظريات إبداعية لكيفية الجمع بين وجود السلطة تحت الاحتلال ومتطلبات التحرر. وفي الواقع هناك إشكالية أخرى ترتبط بالإشكالية السالفة، يبدو أنّها أقل وضوحاً في ذهن المراقبين والسياسيين على السواء، وهي كيف يمكن أن تعارض وترفض سياسات سلطة تحت الاحتلال، دون أن تسقط في فخ الانقسام الداخلي، ودون أن تبدو كم يعارض الجهة الخطأ، ودون أن تبدو كذلك كمن يطرح بديلاً عن منظمة التحرير الفلسطينية.
هذا على سبيل المثال ما حصل، في الأسابيع الفائتة، في موضوع التضامن مع الأسرى، فالأطفال والشبان الذين أغلقوا شوارع وأحرقوا إطارات في قلب المدن وعلى بوابات المخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية، ربما لأنّ الترتيبات الأمنية التي أعقبت اتفاقيات أوسلو، جعلت الإسرائيليين بعيدين، نسبيا، وتتطلب مواجهتهم اقتحام الشوارع الالتفافية، المكشوفة أمنياً، البعيدة نسبياً، أو الدخول للمستوطنات، وهو مستحيل، إذا كان المقصود احتجاجا مدنيا، والرد عليه يكون بقتل من يحاوله. ولكنهم فعلوا ذلك أيضاً، احتجاجاً على المستويات الرسمية والفصائلية الفلسطينية، وحتى ضد المجتمع الفلسطيني، الذي لم يقدم المتوقع لإسناد الإضراب؛ ليس لقلة اهتمام، أو توانٍ، بقدر ما هو نتيجة البنية السياسية والأمنية والاقتصادية المفروضة على الشعب الفلسطيني. ولكن رد الفعل الرسمي وحتى رد فعل شريحة شعبية فلسطينية واسعة، كانت أنّ هؤلاء الصبية والشبان، يعطّلون الحياة الفلسطينية، ولا يؤذون الاحتلال بشيء، وبالعكس يتحقق هدف احتلالي بنقل المواجهة إلى داخل الفلسطينيين.
لا يقتصر الأمر على الشبّان الذين يغلقون الشوارع، بل يصل الأمر تقريباً لكل من يمارس معارضة داخلية تمس الشؤون السياسية، خصوصاً إذا نزل إلى الشارع، فيتم اتهامه بأنّه يتحرك في الاتجاه الخطأ. وأفضل مثال على ذلك باسل الأعرج وأصحابه. فقبل أعوام، وتحديداً عام 2013، ضرب الأعرج على رأسه بقسوة وهو في مظاهرة ضد المفاوضات والسياسة الرسمية الفلسطينية، ويومها استضيف مع الناطق الرسمي للأجهزة الأمنية في لقاء تلفزيوني، حذر فيه الناطق الرسمي من تحول الاحتجاجات لفوضى، على غرار الدول العربية المحيطة، واتهم الأعرج بأنه يكذب بالنسبة للجرح البادي في رأسه، وهاجمه المذيع بشدة، وتحداه، أن يوجه قنابل وقذائف للاحتلال. ولاحقاً اعتقل باسل من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية وهو يحاول مع مجموعة من الشبان إطلاق عمل عسكري ضد الاحتلال، وبعد إطلاق سراحه ومجموعته بعد إضرابهم عن الطعام، اعتقلت غالبية المجموعة من قبل الإسرائيليين، الذين قتلوا أيضاً، الأعرج. ولعل هذه القصة تعكس انسداد الطرق أمام المعارضة السياسية، كما المقاومة.
وعندما يصل الأمر إلى نشاط مثل عقد مؤتمرات وتجمعات، على خلفية تعطل منظمة التحرير الفلسطينية، وعدم تجديد شرعياتها وأعضائها، مثلما حدث مع مؤتمر "اسطنبول" للفلسطينيين في الخارج، يثار فورا أنّ هذا جهد لمنافسة أو تهديد مكانة المنظمة، كممثل شرعي ووحيد.
تتراجع أعداد من يعتقد بإمكانية تحديث أطر العمل الفلسطيني، ومنظمة التحرير الفلسطينية، لتكون بوابة سياسية للتيارات المختلفة، وينمو بدلا منهم أعداد من يتساءلون، أحد ثلاثة أسئلة، كيف نتعامل مع السلطة؟ كيف نحدث تغييرا في أدائها؟ كيف نلتف على الواقع الذي وجد معها ونقاوم الاحتلال؟ كيف ننشئ مؤسسات عمل وطنية فاعلة بدلا من المتعثرة والمجمدة والمتهالكة؟
غالبا سينتصر صوت العقل، ومنطق الرافضين للصدام الداخلي، مع الإخوة والشعب الواحد في السلطة، ولكن هذا لا يلغي أنّه لا بد إما من طريقة لمعارضة السلطة ومستوى أدائها وإنجازاتها في مواجهة الاحتلال، ولتجديد منظمة التحرير، دون اتهامات بحرف البوصلة، وإثارة الفوضى، وعدم الجدوى. ودون الاتهام بمحاولة خلق كيان موازٍ، ودون السقوط فعلا في مخططات تريد خلق كيان موازٍ، ودون السقوط بيد قوى إقليمية لديها أجنداتها الخاصة التي قد لا تتفق مع المصلحة الفلسطينية، ودون البدء من الصفر، ببناء مؤسسات ومقومات، بينما الموارد والمؤسسات موجودة لدى السلطة ومنظمة التحرير.
هناك حاجة ماسة للتفكير في الرد على هذه الأسئلة، وهو ما سأتعرض له في مقال قادم.
عن الغد الأردنية