أيّ مستقبل ينتظر مجلس التعاون الخليجي؟

د. عبد المجيد سويلم.jpg
حجم الخط

لم يكن هذا السؤال ليثار في هذه المرحلة لولا الأزمة الأخيرة التي تسببت بها قطر، أو التي افتعلتها هذه الدولة حتى نسمّي الأمور بمسمّياتها الحقيقية.
ليس مهماً، أو لم يعد مهماً البحث في الأسلوب والذرائع التي تم اللجوء إليها لإثارة هذه الأزمة، بعد أن خرجت المسألة من الأروقة الدبلوماسية وتحولت في بعض فصولها ومظاهرها إلى مادة للتراشق الإعلامي والغمز واللمز من ملفات وملفات على درجة كبيرة من الحساسية ومن الخطورة أيضاً.
معروف أن فكرة مجلس التعاون الخليجي نشأت على الاعتبار الأمني أولاً، إلاّ أن محاولات عدة قد جرت لإضفاء بعض الاعتبارات الاقتصادية والتي لم تتكلل بالنجاح حتى الآن تماماً كما أن التطورات والأحداث في هذه المنطقة تحديداً قد همشت من الاعتبار الأمني مخلية الطريق أمام الحفاظ على درجة معينة من التنسيق السياسي بين دول المجلس بصورة منتظمة، دون إحداث تحولات كبيرة في بنية المجلس باتجاه تطوره إلى منظومة متكاملة في المجالات الأساسية.
الدولة القطرية لم تشعر قط بأن مجلس التعاون الخليجي يلبي طموحاتها وأهدافها وخصوصاً بعد أن «تعملقت» هذه الدولة على الصعيد المالي، ولم تتخلص أبداً من رغبتها في «كبح» جماح الزعامة المطلقة للعربية السعودية لهذا المجلس.
رأت قطر دائماً أن «هيمنة» السعودية على هذا المجلس من شأنها أن «تطيح» بالطموحات القطرية لكي تلعب الدور الذي رسمته لنفسها أو ربما الأصح القول ـ الدور الذي رُسم لها بعد انتهاء الحرب العراقية ـ الإيرانية، والذي شرع الغرب بالاعداد له (أي الدور القطري)، قبيل الانقلاب الذي قام به الشيخ حمد (والد الشيخ تميم) على أبيه أثناء تواجده في العاصمة البريطانية آنذاك.
جاءت أحداث الحادي عشر من أيلول لتعزز هذا الدور وتعطيه من الأبعاد الجديدة ما كان متوقعاً وما كان قد خطط له في الأصل.
هنا بدأت القواعد العسكرية الأميركية في قطر في التحول إلى مركز أساسي لقيادة القوات الأميركية على الصعيد العالمي، وتحولت الدولة القطرية إلى مركز مالي وسياسي جديد، وبدأ إعداد الدولة الصغيرة لأدوار كبيرة ولإحداث تحولات كبرى في خدمة الأهداف الاستراتيجية الكبرى للغرب.
في هذه المرحلة بالذات وبعيد منتصف الولاية الأولى لجورج بوش الابن طرحت قطر نفسها باعتبارها القوة القادرة على منافسة العربية السعودية بعد أن أثار المحافظون الجدد الكثير من التشكيك في دور السعودية بل والاتهام لها بالمسؤولية المباشرة وغير المباشرة عن أحداث الحادي عشر من أيلول.
الغريب في الأمر أن إسرائيل دخلت على الخط القطري بقوة غير متوقعة إلى الدرجة التي بات بعض المراقبين يؤكدون دورا إسرائيليا مباشرا في ذلك الانقلاب الذي تم في نتيجته الاطاحة بالشيخ الكبير، وهو والد الشيخ حمد. كما أن الغريب هنا أن الشيخ جاسم (وزير خارجية قطر في عهد الشيخ حمد) قد تحول إلى شخصية مركزية «كبيرة» على الرغم من مجاهرته وتفاخره وتباهيه بالعلاقة الخاصة والمميزة مع إسرائيل.
في هذه المرحلة وما تلاها أنيط بقطر مهمة التأثير والتغيير والتدخل المباشر والفعال في كافة مناطق النزاع والتوتر في كامل منطقة الإقليم، وفي بعض القضايا الدولية الأخرى.
وقد فتحت الدولة الصغيرة كل خزائنها للقيام بهذا الدور، وأصبحت الدوحة مركزاً مميزاً لعقد كل أنواع المؤتمرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ولم «تسلم» مواضيع البيئة والاحتباس الحراري ولا الهندسة الوراثية من تلك النشاطات، أما المصالحات والمفاوضات والمحادثات بين كل المتنازعين فحدّث ولا حرج.
مهدت هذه الأموال لدولة قطر أن تتسلم رسمياً دور المقاول الرئيس لتسليم الإسلام السياسي مقاليد الحكم في هذه المنطقة.
وفي الولاية الأولى والثانية من عهد أوباما تسلمت قطر مهمة تسويق «الإخوان» لكي يكونوا البديل الجاهز لبعض أنظمة الحكم التي كانت تعيش حالة متردية من العجز التنموي والفساد والاستبداد، والتحالف العميق بين رأسمالية طفيلية وبين المؤسسات الأمنية في هذه البلدان.
وكما كانت قطر قد ركبت موجة «المقاومة» في لبنان وفلسطين لكي تمهد للدور المطلوب في «الربيع العربي»، ركبت أيضاً موجة تدجين الإسلام السياسي للتحالف الاستراتيجي مع الغرب ومع الولايات المتحدة أساساً.
استجابت إدارة أوباما لهذا الدور وأصبح للولايات المتحدة فلسفة واضحة على هذا الصعيد، جوهرها القبول بالتحالف مع الإخوان على قواعد أربعة:
1. الإخوان هم أقوى حزب سياسي جماهيري قادر على الحكم.
2. الإخوان هم الوحيدون القادرون على محاربة الإرهاب من مواقع إسلامية دينية.
3. الإخوان ليس لديهم مشكلة حقيقية مع إسرائيل طالما أن الحكم بأيديهم.
4. الإخوان ليس لديهم برامج اقتصادية واجتماعية متعارضة مع الرأسمالية الغربية ولا حتى مع أكثر مظاهرها توحشاً.
تحولت قطر إلى المقاول الرئيس في المنطقة وأصبحت تعمل ليل نهار على هذه الاستراتيجية.
انقلب السحر على الساحر بعد الإطاحة بحكم الإخوان في مصر ثم تونس وانحسار جماهيريتهم في معظم البلدان، ثم تبخرت هذه الاستراتيجية بالكامل بعد انتخاب ترامب.
حاول الرئيس التركي «إحياء» هذا الدور إلاّ أن محاولاته لم تنجح بل وفاقمت من أزمة الإسلام السياسي، وتراجع الدور القطري وانحسر في ملفات هامشية، وعادت العربية السعودية ليس فقط لتتزعم الشأن الخليجي وإنما لتزعم الشأن العربي والإسلامي كله.
لم تجد قطر من ملف ساخن لمنافسة السعودية غير الملف الإيراني، وقد اختارت التلويح بهذا الملف لإعادة الاعتبار لدورها المفقود في المنطقة، وبعد أن عادت إلى مجرد دولة عادية في مجلس التعاون.
المحاولة القطرية الأخيرة هي الإثبات النهائي أن مجلس التعاون الخليجي ليس حالة متماسكة، وقد يتحول إلى إطار شكلي كما تحول اتحاد المغرب العربي والاتحادات المماثلة، وأصبح واضحاً أن كل صيغ العمل العربي المشترك العامة والمناطقية هي صيغ هشة ومتقادمة وعقيمة، لأنها لا تمتلك مقومات المشروع القومي النابع من المصالح الوطنية، وهي كلها حبيسة الارتهان للغرب ومخططاته ومصالحه.