صعب جدا، بل قريب من الاستحالة، التمكن من جرد التاريخ العربي، او تاريخ العرب، في فقرة او فقرات في مقال صحافي.
رغم ذلك ساحاول ما استطعت ان اختصر، حد الاختزال، لوضع قاعدة لا بد منها، توضيحا لما ارى فائدة في الدعوة اليه من انتهاج سياسة عربية في هذه المرحلة التي تتعرض فيها الامة العربية بجميع دولها وشعوبها لمخاطر اندثارها كأُمة ودول، بعد ان اندثر دورها في التأثير على التطورات في العالم المحيط، وصل حالة انعدام التأثير في التطورات داخل حدودها.
بدأ الانحدار منذ قرون عديدة. وتحديدا: منذ بدء ترهل الخلافة العباسية، بعد بلوغ القمة في عصرها الذهبي في عهد الخليفة العباسي الخامس، هارون الرشيد وابنيه: الامين والمأمون. واستمر الانحدار والتدهور، ووصل درجة مزرية من التخلف مع خضوع الأمة العربية لراية الامبراطورية العثمانية طوال خمسة قرون متواصلة، انتهت بانتهاء الحرب العالمية الاولى عام 1918، لتقع تحت استعمار الدول الاوروبية: بريطانيا وفرنسا اساسا، مع «حصص» لايطاليا واسبانيا. ثم وصولا الى ايامنا، بعد استقلال شعوب الامة العربية، وتشكيل كياناتها على «شكل» دول مستقلة، وطبعا باستثناء فلسطين، التي قدمتها بريطانيا، بمباركة غربية وشرقية، لقمة سائغة للحركة الصهيونية، لاحتلال واستعمار اسرائيلي.
هذا الليل العربي الطويل، لم يخلُ من ومضات نور بشّرت بخير لم يصل، وكانت ابرز ومضات النور تلك: صلاح الدين الايوبي قبل تسعة قرون، وجمال عبد الناصر قبل ستة عقود.
عندما شكلت إسرائيل بقيامها جدارا فاصلا بين اسيا وافريقيا، بين المشرق العربي والمغرب العربي، وضع دافيد بن غوريون نظريته السياسية في «التحالف مع كل مسلم ليس عربيا، ومع كل عربي غير مسلم»، نجحت هذه السياسة في الجزء الاول من مقولته، وفشلت في الثاني:
ـ تحالفت مع تركيا لتطويق العالم العربي من الشمال.
ـ تحالفت مع ايران لتطويق العالم العربي من الشرق.
ـ زادت على تحالفها هذا مع دولة سنية كبيرة ذات وزن اقليمي نوعي، ومع دولة شيعية كبيرة ذات وزن اقليمي نوعي، تحالفا مع اثيوبيا المسيحية لتطويق العالم العربي، (وخاصة مصر..»هبة النيل»)، من الجنوب.
ـ فشلت في استمالة المسيحيين العرب، ولم تنجح كل محاولاتها مع لبنان (الرسمي فقط) الا لفترة اشهر، اثناء اجتياحها للبنان وحصار عاصمته بيروت عام 1982، وفي مرحلة ضعف لبناني إثر، ونتيجة، حرب اهلية دموية محزنة، وزج الفلسطينيين فيها، وتدخلات سورية مدمرة تحت شعارات زائفة ومضلِّلة.
كان الرد العربي، متمثلا في ما اعتمده جمال عبد الناصر من سياسات بعيدة النظر، حكيمة ومبادِرة، هو:
ـ بناء تحالف مع اليونان، (اثمرت تحرير قبرص من الاستعمار البريطاني)، وطوقت تركيا، حليفة اسرائيل.
ـ بناء تحالف مع الهند، اثمر «توليد» حركة عدم الانحياز، و»الحياد الايجابي» في عالم القطبين الغربي والشرقي وإلغاء مفعول وتأثير التحالف الاسرائيلي الايراني.
ـ ثم تمكن عبد الناصر من تحييد اثيوبيا بدعم رغبتها باختار عاصمتها، اديس ابابا، مقرا دائما لمنظمة الوحدة الافريقية، وحمى بذلك حقوق وحصة مصر في مياه النيل.
هذه الصورة للوضع العربي، تغيرت بشكل جذري وكامل تقريبا بفعل ما انتهت اليه حرب حزيران المشينة والمدمرة، عام 1967. لكن بدء محاولات الخروج من صدمة تلك الحرب، التي تمثلت بمعركة الكرامة في آذار/مارس 1968، وبالمبادرة المصرية الى «حرب الاستنزاف»، وبتتويج تلك المحاولات بحرب اكتوبر/تشرين 1973، التي تكاملت فيها الجهود العربية، من خلال اندفاع الجيشين المصري والسوري لـ»ازالة آثار العدوان»، والدعم السعودي (الملك فيصل) والخليجي المادي المباشر، وحظر النفط، ادت الى بدء شعور عربي بالثقة بالنفس وبالمستقبل، الا ان تفرد الرئيس المصري، انور السادات، وزيارته للقدس، وتوصله الى معاهدة صلح منفرد مع اسرائيل، وبرغم انه اعاد لمصر كامل شبه جزيرة سيناء، فانه اخرج مصر من الدائرة العربية، الامر الذي ادى الى اهتزاز معادلة الصراع العربي الاسرائيلي، وتطور الوضع العربي الى أسوأ مما كان عليه.
تزامن هذا التطور مع نجاح الثورة الايرانية بقيادة الخميني بالاطاحة بحكم الشاه محمد رضا بهلوي، وقبل ان ينعم العرب بفرحة انهيار حليف اسرائيل القوي، فوجئوا بسياسة تصدير الثورة الى دول الجوار العربي، وبدء اثارة النزعات الدينية والطائفية المدمرة لذاتها ولخصومها في المنطقة، الامر الذي قاد الى اندلاع الحرب العراقية الايرانية، التي خاضها العراق بدعم عربي، وخليجي اساسا. ولكن، هنا ايضا، لم تكتمل ولم تستمر الفرحة العربية بالانتصار العراقي، (رغم الخسائر البشرية الكبيرة)، حيث بادر الرئيس صدام حسين الى اجتياح الكويت واحتلالها، مفجرا ومدمرا لما تبقى من تضامن عربي، واصبح كل الوضع العربي، وخاصة مشرقه، ساحة تلعب بها ايران وتسعى الى تشكيلها على النحو الذي يشبع رغباتها بالهيمنة الفعلية وبالاحتلال المباشر.
زادت الوضع العربي تعقيدا وحَرَجا «غزوة» القاعدة، بقيادة أُسامة بن لادن، للعاصمتين الامريكيتين: الادارية نيويورك، والسياسية واشنطن، يوم 11 سبتمبر/ايلول 2001، وتركيز جهات امريكية رسمية عديدة، على الهوية السعودية لبن لادن والغالبية بين من منفذي تلك العملية. مما ادى الى شكوك لدى الرئيس الامريكي جورج بوش الابن بالسعودية وسياساتها، وتحرش واتهامات للعراق، ثم شن الهجوم عليه واحتلاله، والإقدام على حل جيشه القوي العريق، وتقديم العراق بذلك، هدية مجانية فاتحة للشهية، لدولة الولي الفقيه، ايران. ثم تلى ذلك عهد الرئيس الامريكي بيل كلنتون، الذي تميز بالفتور تجاه غالبية الدول العربية، وخاصة السعودية والخليج العربية، واكمل الرئيس الامريكي السابق باراك اوباما، باعتماد سياسة التقرب والتقارب مع ايران، والسكوت على اطماعها وسياساتها الساعية للهيمنة على دول الجوار العربي، وتبني سياسة تفضيل جماعات «الاخوان المسلمين» على جميع الاحزاب والقوى الوطنية والقومية في العالم العربي.
هذه التطورات على الصعيد الاقليمي، وعلى صعيد العلاقات المصرية والسعودية والخليجية مع اميركا، وما صاحب ذلك من تمادي ايراني في الاندفاع داخل الساحة اليمنية، فتحت الباب الالزامي لتغيير في السياسة السعودية بشكل خاص، الى التخلي عن سياستها السابقة المتميزة بالتروي والتحمل ومحاولة الامتناع عن المبادرة وتفضيل الديبلوماسية الهادئة والسرية، في غالب الاحيان، وانطلاقها المفاجئ في دعم مالي غير مسبوق، (وغير كاف رغم ذلك)، والتصدي المعلن لتنظيمات الاخوان المسلمين،، ثم بـ»عاصفة فعل غاضب» هو «عاصفة الصحراء»، في مواجهة الاذرع الايرانية في اليمن.
بتغيير الادارة الامريكية في مطلع العام، واسدال الستار على عهد اوباما، تم اسدال الستار على كل سياساته بشكل عام، وعلى سياسته في موضوع ايران، وفي طريقة التعامل والتعاون مع حلفائه في مصر والسعودية والخليج.
هذا التطور في العلاقات العربية الامريكية، يستلزم وقفة وتمعنا واعادة نظر في الكثير من الامور والقضايا.
ان الخطر الاسرائيلي الصهيوني المدمر للمستقبل العربي باجمله، بما في ذلك المستقبل السعودي والخليجي، يصبح ثانيا، (حتى لا نقول «ثانويا»)، حين يكون الخطر الايراني ماثلا وحاضرا وفعلا مضارعا.
هنا، بين خطر اسرائيلي/صهيوني أكيد لاحقا، وخطر ايراني/فارسي أكيد آنيٍّ فوري، اختارت السعودية، والخليج العربي معها، تقديم التعاطي مع الخطر المحدق والماثل، بهدف صدّه وإحباطه، على متابعة التصدي للخطر الاسرائيلي/الصهيوني المستقبلي الأكيد. هذا موقف عقلاني، وهذه سياسة حكيمة. لكنها سياسة خطيرة، أيُّ خطإ فيها، مهما صغُر حجمه، يمكن ان يحولها الى سياسة مدمرة.
صحيح انه لا وصول الى المستقبل بدون الحاضر. لكن لا شيء ملموسا في الحقيقة اسمه الحاضر. مجرد لحظة لفظ كلمة «الحاضر» تصبح لحظة من الماضي. وهذا ما يميز الحاضر عن الماضي والمستقبل، اذ لمسألتي الماضي والحاضر ادوات منطقية للقياس، كأن نقول: في الماضي البعيد، او: المستقبل القريب المنظور، او المتوسط المتوقع، او البعيد المحتمل. وما ينطبق على القضايا الفردية، في هذا السياق، ينطبق على القضايا العامة.
الآن، وقد بدأ احتمال انحسار الخطر الايراني المحدق، وليس بدون مقابل مالي هائل، نصل الى سؤالين جوهريين:
ـ ألَيس من الممكن دعم مصر، المؤهلة: عراقة وتاريخا وقاعدة صناعية ذات جذور وكفاءات علمية بين المئة مليون مصري، لبناء قاعدة صناعات عسكرية عصرية، تدعم وتحمي المستقبل العربي؟. دون ان ننسى، في هذا السياق، ان كل الاسلحة والمعدات والاجهزة والآلات العسكرية الاميركية، تستدعي صيانات بمئات مليارات الدولارات لتكون، ربما، او لتصبح، او لتظل قابلة لصد أي خطر، بقرار ذاتي.
ـ من هنا الى اين؟
ليس لدي جواب، قابل للنشر، على السؤال الاول.
لكن، للسؤال الثاني لدي اقتراح جواب.
في الشرق الاوسط، كما كتبت ونشرت سابقا، اربعة مكوّنات اساسية اصلية: الفرس والترك والكرد والعرب، ومُكوّن خامس قيد التشكل هو اليهود. هذه المُكوّنات الخمسة تنقسم الى فصيلين: فصيل المستقرين الطامعين، وفصيل الضحايا المُهدّدين. المستقرون الطامعون هم الفرس والترك واليهود. واما الضحيتان المهددتان فهم الكرد والعرب. الم يحن الأوان لتحالف الضحيتين على الاقل.
علما انه بالنسبة الى الكرد، كضحية، فان العرب في العراق وسوريا تحديدا، يشغلون مقعد الجلّاد.
عن القد العربي