بالرغم من الأهمية الكبيرة للزيارة التي تقوم بها للأراضي المحتلة السيدة فيديريكا موغيريني مفوضة العلاقات الخارجية للاتحاد الأوروبي، الا ان الدور الاوروبي الذي تتحدث عنه موغيريني قد جاء متأخرا جدا. المسؤولة الاوروبية تتحدث عن جهد اوروبي جدي وحقيقي من اجل انقاذ عملية السلام، وتؤكد على أنها تعبر عن التزام اوروبا الموحدة برؤية الدولتين واقامة السلام في هذه المنطقة، وانها تنوي القيام بجملة من النشاطات المنسقة، مع اطراف الرباعية الدولية للبحث في شروط انطلاق المفاوضات المتوقفة.
التوقيت الذي تقوم فيه المسؤولة الاوروبية بنشاطاتها ولقاءاتها ليس مرتبطا بنجاح نتنياهو في تشكيل حكومة جديدة، فلقد كانت هناك حكومات اسرائيلية كل الوقت، لكنه في الاساس مرتبط كما هو واضح بتخلي الولايات المتحدة عن دورها الاحتكاري، بعد فشل هذا الدور.
الرئيس الاميركي باراك اوباما الذي جدد اعلان بلاده تمسكها برؤية الدولتين، عبر في التصريح ذاته عن شيء من الاحباط واليأس بشأن امكانية تحقيق السلام، ولكن بدون ان يغيب بلاده عن المشهد كليا. خلال العقدين المنصرمين، فضلت اوروبا الكبيرة والموحدة ان تصطف خلف الولايات المتحدة التي تصدرت مجموعة الرباعية الدولية، وامتنعت عن اتخاذ مواقف تبدو وكأنها مزايدة على المواقف الاميركية، وحتى لا يكون ذلك سببا في افشال الدور الاميركي، ولكنها لم تكن راضية كل الوقت عن السياسات الاسرائيلية.
مواقف العديد من دول الاتحاد الاوروبي كانت متقدمة دائما عن المواقف الاميركية، ازاء الحقوق الفلسطينية، ولكن الولايات المتحدة شكلت ضابطا لتطوير تلك المواقف.
قد يعتقد البعض أن تراجع الدور الاميركي يعكس تراجعا في قوة الولايات المتحدة على المستوى الدولي، ويؤشر إلى أن المرحلة المقبلة ستشهد بداية ظهور وتبلور العالم متعدد القطبية، وهذا صحيح إلى حد ما، ولكن أيضا يبدو ان الرئيس اوباما لا يزال لا يغفر لاسرائيل مسؤوليتها عن افشال الدور الاميركي وتطاولها على الرئيس وادارته، ولذلك فإنه عمليا يسلم الراية لآخرين يملكون حرية اكبر في الضغط على اسرائيل.
الإسرائيليون يفهمون ذلك جيداً، ولا يخدعهم تصريح اوباما الذي يشير من خلاله إلى ضرورة تعزيز تعاون بلاده مع اسرائيل، حتى لا يكون سبباً في تدخلات اسرائيلية اكثر تأثيراً على الانتخابات الرئاسية نهاية العام القادم لصالح الجمهوريين، فيما هو في كل الاحوال لا يخرج عن محددات السياسة الاميركية التي تتبنى اسرائيل وتغذيها بكل انواع واشكال واسباب القوة والتفوق.
الاتحاد الاوروبي دخل مبكرا حيز ومناخ التفكير في اتخاذ اجراءات عقابية لاسرائيل، فهو عدا عن تزايد المقاطعة الاقتصادية والاكاديمية لمنتجات المستوطنات التي لا يكف عن وصفها بغير الشرعية، يقدم مؤشرات أخرى، ذات ابعاد سياسية. بعد دولة السويد التي اعترفت بالدولة الفلسطينية بادرت دولة الفاتيكان للاعتراف، وهذه وان كان طابعها روحيا ومعنويا الا انه مؤشر على اعترافات اوروبية قادمة، وهو اعتراف ملهم للمجتمعات الاوروبية التي تلعب فيها منظمات المجتمع المدني والبرلمانات ادواراً مهمة في التأثير على سياسات الحكومات والدول.
وقبل ذلك تقدمت العديد من برلمانات دول اوروبية مهمة بتوصيات لحكوماتها للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وبعض هذه الدول صوتت إلى جانب تغيير مكانة فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى دولة غير كاملة العضوية.
وفي ظل هذا المناخ العام الأوروبي المنزعج من السياسة الاسرائيلية، تتجرأ فرنسا على تقديم مبادرة، ترفضها إسرائيل حتى الغضب رغم انها غير مقبولة بالنسبة للفلسطينيين، طالما انها تتحدث عن دولة يهودية.
اسرائيل في الواقع لا ترغب في ان يتقدم احد وخصوصا من حلفائها باية مبادرة لتحريك عملية السلام، ان كانت بصورة منفردة او جماعية، خارج ام داخل اطار الامم المتحدة، ذلك انها تحلم اليوم بلعب دور اقليمي كبير فاعل ومباشر على خلفية التطورات التي تجري في المنطقة.
المحاولة الاوروبية من غير المقدر لها أن تنجح في انقاذ المفاوضات وعملية السلام ما لم تكن مشفوعة بضغوط حقيقية قوية على اسرائيل، التي لا تعرف لغة الصداقة والإقناع خصوصاً وان الاتحاد الاوروبي يملك ادوات ضغط فاعلة.
الاتحاد الأوروبي يملك الغطاء الأخلاقي التاريخي بما انه او بعض اهم دوله هي التي تبنت المشروع الصهيوني، وهي التي مكنته من النجاح، وهي ايضا التي ساهمت في بناء قدراته النووية.
بعض المسؤولين الأوروبيين طالبوا في الفترة الأخيرة، دول الاتحاد بفض اتفاق الشراكة الاستراتيجي مع إسرائيل، ما يعني ان المناخ العام السائد في اوروبا، ينطوي على استعدادات كبيرة للتقدم اكثر باتجاه ممارسة الضغط الفعال ضد إسرائيل، وفي المقابل توسيع أشكال التعامل الإيجابي مع دولة فلسطين. الفلسطينيون يدركون مدى صعوبة تحقيق النجاح فهم العالمون على الأرض بما تخطط له دولة إسرائيل، التي لا تعطي أي مؤشر على إمكانية تراجعها عما تقوم به، ولكنهم لا يستطيعون رفض الدور الأوروبي او التعامل معه. غير ان الفلسطينيين ان كانوا يعلمون ولا يستطيعون رفض الدور الأوروبي الا ان معهم كل الحق، في ان يرفقوا موافقتهم على استئناف المفاوضات بشروط ليست جديدة، وهم تمسكوا بها خلال الإدارة الأميركية الاحتكارية للملف. كانت إسرائيل قادرة كل الوقت السابق على التلاعب على الكل لاستنزاف الوقت، بدون ان تتوقف عن خلق الوقائع على الأرض، لكن هذه المرة مختلفة ويبدو أن الاتحاد الأوروبي قد استخرج الدروس والعبر من المرحلة السابقة.
في كل الأحوال لم يبلور الفلسطينيون حتى الآن خيارات أخرى بديلة، ما يجعلنا نعتقد بأنهم يسيرون وفق سياسة نزع الذرائع بأمل أن لا تطول هذه الفترة، لأن ما سيلي ذلك سيكون أفضل من حيث تحقيق إنجازات سياسية ودبلوماسية على المستوى الدولي.