«لدي شعور سيء: أخشى من أن الوقع القائم سيستمر كما هو بالضبط عشرين سنة اخرى. وتوجد لذلك ضمانة وهي – الجنون الانساني والرغبة في عدم اظهار الكارثة المقتربة. لكنني أثق بأنه ستأتي لحظة سنكون فيها مجبرين على فعل شيء، ويمكن أن يكون وضعنا أكثر دونية».
هذه الكلمات لم تُقل الآن، بل كتبت قبل ثلاثين سنة في العام 1987، في ذكرى مرور عشرين سنة على حرب الايام الستة. وقد كتبها دافيد غروسمان وقام بنشرها في العدد الخاص من اسبوعية «عنوان رئيس». وقد قضى غروسمان في حينه بضعة اسابيع في جولة في الضفة الغربية، وقام بتأليف كتاب «الزمن الاصفر».
كان ناحوم برنياع في حينه محرر «عنوان رئيس» الى جانب توم سيغف. وقال، في تلك الفترة، بعد مرور عشرين سنة على الاحتلال، كان يبدو كل شيء جيدا. مئات آلاف الفلسطينيين عملوا في اسرائيل واحضروا الطعام الى بيوتهم. كان هناك تصدير من المناطق الى الدول العربية. وكان كاتب ليصف الوضع وراء الخط الاخضر بأنه غير مقبول اخلاقيا. وفي اعقاب الكتاب حدثت في بيت ليسين أمسيات «الزمن الاصفر»، وشارك فيها فلسطينيون ايضا تحدثوا عن حياتهم.
الناس فوجئوا عند رؤية فلسطينيين يتحدثون العبرية، ويعرفون درج المباني أكثر منا في تل ابيب لأنهم يقومون بتنظيفها. وكما قال برنياع كان هذا اكتشافا، وقد فعل غروسمان ذلك بطريقة استثنائية. فهو لم يعتبر أن دوره هو تربية المجتمع الاسرائيلي. إنه كاتب حزين أكثر من كونه يقدم النصائح. دمج بين مراعاة مشاعر الآخرين وبين الموقف الاخلاقي، والقدرة المباشرة على فهم الفلسطينيين بلغتهم، لأن غروسمان يتحدث العربية.
لقد قال غروسمان في هذا الاسبوع: «كان عمري 33 سنة، وكانت العشرين سنة تبدو مثل الأزل بالنسبة لي. شعرت أن الفلسطينيين سينفجرون، ولم أكن أعرف كيف سيسمون ذلك، لكني شعرت بخيبة أملهم واحباطهم. في اليوم الذي زرت فيه مخيم الدهيشة للاجئين عدت الى القدس واشتريت دفتر من شارع بن يهودا، كانت تلك أمسية مقدسية باردة وضبابية، الناس يسرعون الى منازلهم ويشعرون ان كل شيء عادي ولم يتغير، وأنا كنت اشعر بالاشتعال بسبب النبأ الذي أحضرته معي من المكان الذي يبعد نصف ساعة عن بيتي».
صدرت نشرة «عنوان رئيس» في أيار 1987، وتم توزيع 40 ألف نسخة منها، ثلاثة اضعاف النشرة العادية. واندلعت الانتفاضة الاولى في شهر أيلول من ذلك العام. وتم اصدار الكتاب اثناء الانتفاضة، والتهمه الناس كاثبات بأثر رجعي، لأنه توقع المستقبل. وتمت ترجمته الى عشرين لغة.
«لم نعتقد أن هذا العدد الكبير من الاشخاص سيرغبون في قراءته»، قال غروسمان، «لقد طبعوا الكثير من النسخ، ويمكن أن تكون هذه مرحلة لم يعد من الممكن فيها استمرار النفي الذي بدأ بعد حرب الايام الستة. كان هناك عدم رضى بسبب ابتعاد اسرائيل عن الواقع. وكانت في الكتاب حقائق لم يعرفها الاسرائيليون. كانوا يعرفون فقط التقارير حول اطلاق النار والاخلال بالنظام والعمليات الارهابية».
كنت جزءا من الكذب
كان مخيم الدهيشة هو المكان الاول الذي زاره غروسمان. «زرعت نفسي داخل المخيم. كنت خائفا جدا. بدأ الناس يحيطون بي ويطرحون الاسئلة، من أين أنا وماذا أريد، كنت الاسرائيلي الاول الذي يزور هناك بدون سلاح أو زي عسكري. وقفت فترة طويلة الى أن قامت امرأة مسنة بتجاوز الرجال المحيطين بي وأمسكت بيدي وقالت: تعال.
«اليوم»، قال غروسمان، «نحن ندرك تعلق اللاجئين بيافا والرملة. لكنني رأيت في حينه على الحائط مفتاح البيت السابق. لم أكن أعرف ذلك، أنا والقراء، وعندما تسألين فلسطينيا أين ولد يقول اسم القرية العربية التي ولدت فيها جدته.
«بدأ الحوار، وكانت أحد اللحظات المؤثرة عندما ادركت حاجتهم الى التحدث معي، أنا العدو، ورواية قصتهم. رغبتهم أن تُسمع قصتهم. فجأة ترى المرأة مع النقاط السوداء على الوجه، التي ذكرتني بوجه جدتي، عيونها لامعة لأن قصتها شرعية. والشرعية تنبع ايضا من رغبتها في التحدث مع العدو. هذا هو في الاصل ما نرغب به: المصادقة على قصتنا من قبل اعدائنا».
تزعزع الشرعية
أحد فصول الكتاب يصف زيارة غروسمان الى عوفرا. حيث توجه غروسمان الى الحضور وسألهم كيف يشعر العربي في سلواد أو عين يبرود في الحياة اليومية وعلاقته مع أبنائه. وكيف يشعر بتأثير وجود سكان المستوطنات في المكان الذي يعتبره ارضه.
يقول غروسمان لسكان عوفرا كيف يتخيل ذلك. ويقول إنه في حياته اليومية يعطي أهمية كبيرة للزمن: «لا أحتمل التفكير بأن تمر لحظة في حياتي دون مغزى وأهمية وسعادة. أشعر بمسؤولية كبيرة تجاه الزمن الذي أعطي لنا، ويبدو لي بأنني لو كنت أعيش تحت سلطة نظام غريب كانوا سيعذبونني – اضافة الى الامور الملموسة والمفروغ منها – ايضا حقيقة عدم سيطرتي على وقتي. يستطيعون تعويقي في الحاجز من اجل الفحص مدة ساعة، ويفرضون علي حظر التجول لعدة ايام، وتتحول ساعاتي الى نقود معدنية في أيدي ديكتاتورية تضعني في نقطة غير طبيعية في الاطار العام للزمن التاريخي الذي يعيق أو يسرع تطور العمليات بشكل مصطنع وعضلاتي، دون أن أتمكن من استخلاص كل ما في اساسها».
قال أحد سكان عوفرا «على مدخل تل ابيب ايضا أنتظر ساعة أمام الاشارات الضوئية في الصباح».
سألت غروسمان في هذا الاسبوع اذا كان تغير شيء.
«بالطبع تغير شيء»، قال غروسمان، «في العام 1987 كان هناك حوالي 100 ألف مستوطن. واليوم يوجد 480 ألف. وقد نجح المستوطنون فيما أرادوه بالضبط: واقع يصعب فيه رسم الحدود ويمنع الفصل بيننا وبين الفلسطينيين. وهكذا يفرضون علينا الخيار بين بضعة خيارات تراجيدية لمن يريد دولة ديمقراطية وبيتا يهوديا. بهذا المعنى يخلق المستوطنون خطرا على دولة اسرائيل. يقومون بجرنا الى الهاوية. ومن اجل التفكير بشكل مختلف هناك حاجة الى انكار الواقع، وهذا غير موجود لدي للأسف».
عندما تتحرك الجدران
مرت ثلاثون سنة منذ كتب غروسمان كتاب «الزمن الاصفر». في حينه كان والدا لولدين صغيرين، يونتان وأوري، واليوم هو أب لولدين كبار، يونتان وروتي، وجد لحفيدتين. إبنه الاوسط أوري، من سلاح المدرعات، قتل في نهاية حرب لبنان الثانية بعد يومين من المؤتمر الصحفي الذي أجراه غروسمان وعاموس عوز و أ.ب يهوشع وطلبوا فيه من حكومة اسرائيل الموافقة على وقف اطلاق النار وعدم توسيع الحرب في لبنان.
بعد شهرين على موت اوري ألقى غروسمان خطابا في مراسيم ذكرى اسحق رابين تحت عنوان «القيادة الفارغة».
سألته اذا كان الثكل قد أثر على موقفه بالنسبة للعدو. واذا كان موت اوري قد أثر على مواقفه.
«نظرا لوجود شهادات خطية لمواقفي قبل موت اوري، يصعب القول إنني غيرت مواقفي. احساسي مختلف، أكثر ألما، يوجد حزن أكثر في حياتي. وكانت هناك مشاعر غضب. الغضب من نصر الله وحزب الله. والغضب من هدر الحياة. لكنني ما زلت اؤمن بالامور التي آمنت بها من قبل
«بعد موت أوري التقيت مع مدير مدرسة من أم الفحم، وقال لي إن اشخاصا كثيرين في الوسط العربي كانوا ينتظرون كيفية ردي واذا كان هذا سيغيرني. وقال ايضا إنهم يشكرونني لأنني لم أتغير.
«لا أريد العيش في أي مكان آخر»، قال غروسمان الذي ولد في القدس وخدم في وحدة الاستخبارات 8200 وتعلم الفلسفة والمسرح في الجامعة العبرية. «هذا مكان عزيز على قلبي، وكل ما يحدث هنا له صلة بي. بالنسبة لي قصة الشعب اليهودي وارضه هي من أعظم القصص في التاريخ الانساني بشكل عام. كيف تحولت اسرائيل الى ما هي عليه من شعب لاجئين ومشردين. هذه المعجزة التي حدثت لنا، والابداعات الكبيرة لاسرائيل في مجالات كثيرة – الثقافة والهاي تيك والصناعة والعلوم والجيش. ولكن اسرائيل أنشئت لتكون بيتا. إن تعريف اليهودي على مدى التاريخ كان أنه لم يشعر بالراحة في أي مكان، ومن المفروض أن تكون الدولة هي المكان الذي نشعر فيه أخيرا بأنه يوجد مستقبل لأولادنا وأحفادنا وأولاد أحفادنا.
«إلا أن هذا لا يمكن أن يكون بيتا لأن الجدران تتحرك دائما، ونحن الذين نحركها. أشعر بأن البيت في خطر، وهناك اشخاص بدأوا الآن فقط يشعرون بأنهم في البيت. وهم المتدينون القوميون الذين شعروا بأنهم مستبعدين عن كل شيء، وهم على حق. ولكن كيف يعقل أن الطرفين لا يمكنهما الشعور بالبيت؟ فمن اجل ذلك اجتمعنا معا».
خطة الانفصال
من الواضح انه يوجد ميل لاعتبار غروسمان يساريا. وهكذا سيتم التعامل مع المقابلة: يساري آخر يحب الفلسطينيين أكثر من أبناء شعبه. ولكن عند الاستماع اليه ندرك الى أي حد هذه القصة معقدة.
«يساري؟»، سأل، «أنا لا اريد تعريف نفسي. وأنا أطلب أن يكون كل اتفاق مع الفلسطينيين محافظا على اسرائيل وأمنها، لدي شك بالدول العربية، لكنني بالتأكيد موجود في اليسار لأنني أعتبر ان عدونا هو انسان، وأنا أريد أن يعود ليكون انسان. ويصعب علي التفكير بما تفعله الدولة بشعب آخر منذ خمسين سنة».
سألته من الذي يجب أن يكون رئيس الحكومة القادم في اسرائيل.
«لقد التقيت مع قادة محتملين كثيرين، وهم ذوو كفاءة وثقافة. لكنهم اضاعوا الفرص. يمكن أن تكون تسيبي لفني رئيسة حكومة ممتازة. فهي شجاعة ومسؤولة ومستقيمة ولديها استعداد للمخاطرة ودفع الثمن من اجل مبادئها. نحن بحاجة الى جرأة استثنائية من اجل الخروج ضد التعليم الذي يتم في البيت ورؤية الواقع مع تعقيداته، مثلما تفعل.
«الامر المحتمل والمنطقي الآن هو الانفصال، مع علاقات تجارية متبادلة. الدول التي تعيش الى جانب بعضها البعض تكون لها مصالح مشتركة. ولكن هنا توجد أقلية بسبب التعب تريد فكرة اخرى، أن يتحول الأعداء الى كيان واحد. لكن يجب علينا أن نعرف أن الحديث هو عن شعبين غير جاهزين سياسيا لهذه الفكرة المعقدة. اولا، يجب علينا التعافي من مئة عام من الصراع.
عن «يديعوت أحرونوت»
فهد القواسمي، بعد أربعين سنة سقطت دولة الحشاشين
16 ديسمبر 2024