النظم التي لا تقف على أرض صلبة من الجماهير دوماً تخشى الكلمة.. كل النظم العربية هي وليدة الشرق الاستبدادي وحماس ليست استثناء، الأنظمة العربية لاحقت الكتّاب ومنهم من حفظته سجونها على امتداد العقود الماضية عن ظهر جلد، ومنهم من فر بجلده إلى المنافي. المثقفون العرب الملاحقون وحدهم الهاربون من دولهم إلى عواصم العالم.
هل رأيتم كاتباً إسرائيلياً أو فرنسياً أو أميركياً يهرب من وطنه ويعيش في عاصمة أخرى .. هؤلاء يحتفون بكتّابهم ومثقفيهم.
«حماس» هي ربما الابنة الشرعية لإرث الشرق العميق وتراثه الذي ينطلق من ثنائيات حادة مثل «الخير والشر»، «الحق والباطل» وتضع نفسها ممثلة للخير والحق، وحينها تصبح أية ملاحظة نقدية لها تأتي قطعاً من الشر والباطل وتوجب العقاب بلا رحمة، هذه الثنائيات التي حالت ربما دون تحقيق تفاهمات في المجتمعات والدول العربية وانتهت بالفلسطينيين إلى هذا الانقسام العميق، وكلنا يذكر ثنائيات ما قبل الانقسام من وصف للخصوم بالخونة والكفار مقابل المقاومة والدين.
وعندما يتوفر «للمقاومة والدين» نظام حكم بصرف النظر عن مشروعية هذا الحكم أو انتهاء عقده الاجتماعي منذ سنوات، فالحديث هنا عن الصندوق والانتخابات أو ما شابه يصبح حديثاً عابثاً أمام قدسية «الحق والخير» والرسالة التي يحملانها، وهنا تصبح الخطوط الفاصلة والألوان أكثر وضوحا الأبيض مقابل الأسود ويصبح حديث المنطق السياسي بعيدا عن المنطق وبهذه المقاربة يجري استيلاد مشروعية الاستبداد ويسري فقهه في دوائر المؤسسة تبارك وتحلل تفاصيل ما ينتج عنه من سلوك يومي وسياسات عامة.
وفي ظل هذه الأجواء من الطبيعي أن تعتقل حركة حماس كاتباً وناشطاً مثل عبد الله أبو شرخ الذي وجه انتقاداً لعضو مكتب سياسي للحركة أشار إلى أن إحدى عشرة سنة قادمة تشبه السنوات التي مرت على قطاع غزة المستفحل بالأزمات .. هذا التصريح أثار حملة واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي وقد عقد أبو شرخ ما يشبه المقارنة في تغريدته بين الحياة التي يعيشها قادة حماس وما يتوفر لديهم من إمكانيات وبين المواطن العادي، وتحدث عن فساد وأغلب الظن أن حماس لديها حالات فساد مثلها مثل غيرها وبالتأكيد لا تخلو سجلات الرقابة منها، ولكن هنا بدا حديث الكاتب عن مجموعة الأزمات كأنه تحريض في غير محله.
وهنا نحن أمام معضلة أخرى متعلقة بتفاصيل الحياة اليومية في القطاع.
فعشر سنوات من الحصار وثلاث حروب كانت كفيلة بسحق آدمية المواطن وسلب كرامته بمعزل عن الشعارات الكبيرة، لكن غزة التي تعتبر رمزاً للصمود على مدار التاريخ ركعت على أقدامها، وهنا الحديث عن الشعب الذي تحمل ما لا يتحمله أيوب في صبره وما زال يطالَب بالصبر حتى بلا أفق كما السنوات العشر الماضية.
والسؤال هل حركة حماس حقاً على اطّلاع كامل على تفاصيل البؤس وانسداد الأفق، أم هي فعلاً تصدق الحديث عن الاستقرار وجمالية الحياة بغزة وكل ما يقال عن إنجازات تحققت وتتحقق.
النقاش العام سواء وجهاً لوجه أم على وسائل التواصل الاجتماعي يشي بأن الرواية الأخيرة للحياة في غزة بلد الأمن والأمان والاستقرار هي الأكثر رواجاً بين قيادات تفلت منها تصريحات بهذا الخصوص أو من مؤيدي الحركة.
وهذا يعرضنا لإشكالية أخرى لمن لا يرى كل هذا الوضوح الصارخ لانعدام الحياة من تحطم للاقتصاد وتراكم البطالة وما تولده من مآسٍ اجتماعية وإغلاق معابر وعدم توفير فرص عمل وتأخر سن الزواج وانعدام للكهرباء وغلاء أسعار.
إذا نحن أمام مجموعة لديها تصور ذهني مختلف عن باقي المكونات الأخرى للشعب الذي يشكو ليل نهار.
وهنا يحتاج الأمر إلى دراسة سسيولوجية اجتماعية لتلك المجموعة التي تعرضت للإقصاء بداية نشوء السلطة فوجدت نفسها على هامش الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومعرضة للتضييق والاعتقال، وفجأة ونتيجة أزمة ما في حزيران 2007 تجد هذه المجموعة نفسها تنتقل من الهامش للمركز مع ما يرافقه من تحول في بنيتها السياسية كمقررة وحيدة وتملك قطاع غزة بكل ثرواته وإمكانياته الاقتصادية واقتصاد أنفاق وتقيم أجهزة أمن وتصبح هي من يمارس التضييق والاعتقال.
لقد شكل ذلك الانزياح نقلة نوعية وهائلة بالمعنى الجمعي والفردي لقيادات وعناصر ومؤيدي حركة حماس على كافة الصعد لتصبح في وضع هو الأفضل وأعلى درجات السلم الاجتماعي والاقتصادي ناهيك عن السياسي.
وهنا يصبح منطق التحليل ورؤية الأشياء يحتمل قدراً من الإسقاط النفسي والشخصي في رؤية الفرد لمن حوله وللمجتمع، وبالتالي تصبح أزمات غزة مسألة هامشية أو لا ترى بالعين المجردة أمام تطور الجماعة السياسية وتغيير مكانتها الاجتماعية.
لهذا نرى قدرا من الاندهاش لديها عندما يجري الحديث عن أزمات غزة بمنطق الإنكار كأن الحديث يجري عن الصومال «لقد أبلغني أحد خبراء التنمية أن مؤشراتها في الصومال أعلى كثيرا من غزة بواقعها الحالي» وإلى حد ما يرى بعض المتعصبين منهم أن الأمر يدخل في خانة التحريض والكذب بهدف تشويه التجربة أو استهداف «الخير والحق».
الأمر أشبه بحالة انفصال ذهني تام عن الواقع وبناء تصورات مختلفة أقرب للخيال منها للواقع المأزوم، ويصبح الجدل العام مادة للصراع والانتقام مصحوبا بفقه الاستبداد الشرقي وثنائياته الحادة ويصبح الخصوم جزءا من مؤامرة «لأن الواقع غير ذلك» ويصبح إسكاتهم مطلباً للحفاظ على «المقاومة والدين» انطلاقا من التصورات الذاتية التي لا يراها المجتمع على هذه الشاكلة. وهنا يتم استحضار تجربة الشباب الذين قاموا بتنظيم تظاهرة في جباليا مطلع العام كيف ظل الأمن يلاحقهم ليختفوا حتى من العالم الافتراضي وكيف تجري ملاحقة وإسكات الخصوم، والاعتداء على القيادي محمود الزق نموذج آخر.
حركة حماس جزء من المجتمع وليس نخبته المصطفاة وهذا يؤهلها لتكون جزءا من نظامه السياسي ولا داعي للخوف والتمسك بثنائية «إما نحن أو هم» كما عبر أحد كوادر حركة حماس الوازنة على صفحته على الفيس بوك قائلا: «هل يعني القبول بعودة الاعتقالات وملاحقة المقاومة» هنا مرة أخرى تضع حماس نفسها المقاوم والمتدين الحصري الوحيد وهنا كان رد النشطاء بأن الأزمة في غزة ستستمر كما هي من أجل حماية حركة حماس وحدها ونحن ندفع الثمن من أجل كوادر حماس. في هذا النقاش ثنائية خاطئة لأن حماس جزء من المجتمع وهو الذي يتكفل بحماية جماعاته السياسية.
النقاش مع حركة حماس صعب بل ومسدود لأن التصورات الذهنية مختلفة ومنطلقات النقاش متباعدة بينها وبين باقي الجماعات السياسية «الانقسام ليس صدفة» ومع بقية البنى الاجتماعية وتلك بحاجة إلى دراسة أكثر عمقا وثقافة مختلفة لدى الحركة تبدأ من التوقف عن ملاحقة الخصوم وأمثال الكاتب عبد الله أبو شرخ فهو يجسد نموذج كل التصورات السابقة التي تسعى الحركة جاهدة لنفيها، لكن هذا الاعتقال يؤكد كل ما يقال بلا مواربة من حركة تطالب الناس بالصبر ولكنها لم تصبر على تغريدة كاتب معارض .. الأمر يبدأ من هنا..!