خالد الفقيه "ذئب الله" لجهاد أبو حشيش الوجه الخفي لثقافة القبيلة

 خالد الفقيه "ذئب الله" لجهاد أبو حشيش الوجه الخفي لثقافة القبيلة
حجم الخط

كثيرة هي الروايات التي تصدر في عالمنا العربي، وقليل منها ما يلامس شغاف القلب ويدفع المتلقي لينهم صفحاتها واحدةً تلو الأخرى، وهذا يعتمد على مدى قدرة الروائي والكاتب وحتى الشاعر في أسر من تقع إبداعاته بين يديه ومنهم جهاد أبو حشيش الذي تزخر دار نشره (دار فضاءات) في عمان بعدد لا حصر له من إبداعاته وبما جاد به غيره من الكتاب والروائيين والشعراء.

عندما أهداني جهاد روايته الأخيرة في زيارته الأخيرة لرام الله "ذئب الله" وتناقشنا حولها بحضور صديقنا المشترك الدكتور عادل سمارة وجدت أن جهاد حاول أن يميط اللثام عن وجه أخر لثقافة القبيلة والعشيرة بمستوييها السياسي والثقافي وعلى مدى قرن أو يزيد من الزمان، وهذا كان دافعاً قوياً لي كي أسبر غورها كقاريء لا كناقد (لست ناقداً بالمعنى الحرفي وإنما متذوق للأدب) وهذا ما حصل.

 

رواية ذئب الله وإن كان كاتبها ختمها ربما بإستلهامه من رواية الشهيد غسان كنفاني رجال في الشمس حيث وصل بخواتيمها لحالة العجز الرجولي التي وصلها غسان في شخصية "أبو الخيزران"، فإنها عند حهاد وصلت لحالة العجز عند إبن عواد الباز الذي فقد خصيتيه في تفجيرات الجماعات التكفيرية التي ضربت عمان وهو ما يؤصل ربما لجزء أخر من الرواية يتناول فيها الروائي ما بعد التفجيرات للولوج إلى التفجير الكبير الذي ضرب معظم الدول العربية التي تعيش حالة ما يسمى "بالربيع العربي".

ولكن ما يحسب لجهاد أبو حشيش في روايته هو خروجه عن المألوف في بدء روايته عبر تقديمه لوحات خاصة بشخوص روايته تسهل على القاريء ربط أحداث وفصول الرواية بطريقة سهلة الهضم والفهم ورسم الصور القلمية ليعيش القاريء تفاصيلها وكأنها فيلم سينمائي وهو ما قد يحدث في يوم من الأيام إذا ما بادر منتج ما أو مخرج ما لتحويلها لمادة مرئية وهي تستحق ذلك من وجهة نظري مع ما يقتضيه ذلك من معالجات درامية.

عواد الباز الشخصية الرئيسة عند جهاد طرأت عليها العديد من المتغيرات المرتبطة بتغير الظرف الموضوعي للبيئة التي عاشها منذ كان طفلاً يعيش في مجتمع بدوي مترابط يحكمه سقف الجاه والسلطان والسطوة والنظام البطرياركي وصولاً إلى تجارة السلاح بهدف جمع المال دون وازع ورادع، همه جمع المال بأي وسيلة كانت ودون النظر للطريق والجهة التي ستستخدم هذا السلاح والتي كان أحد ضحاياها إبنه بفقدانه رجولته.

عواد نشأ متمرداً متغذياً على ثقافة القبيلة والثأر والدم فأوصله تحريض جدته لقتل "الذلول" التي حملت به دون أن تربيه كون قبيلتها قتلت عمه الذي لم يره، وبعد الجريمة لم يجد إلا الثورة الفلسطينية التي كانت في أوج قوتها بالأردن ليحتمي بها عبر الإنتماء لها. شهد خلال وجوده بالثورة معاركها مع الاحتلال الإسرائيلي وتمرغ في دماء شهدائها وهو ينقل أشلاءهم إلى مصيرهم الأخير.

دخل السجن وفيه تعرف على الجماعات التكفيرية التي جندته في خدمة مشروعها الدموي، وأمنت خروجه من السجن وجعلته منهل سلاحها، فتحول من مشرد وقاتل ولا يعرف حرمات إلى متدين ظاهرياً كمتطلب للمرحلة الجديدة، ودفع بزوجته الثانية التي كان راودها عن نفسها طفلة عندما كانت تصطحبها والدتها إلى المزارع التي يملكها ويديرها لولا تدخل إحدى العاملات التي أنقذتها في اللحظة الأخيرة قبل أن ينقض عليها، وبعد دهر باتت زوجته بعد أن إفتننت وأسرتها بماله المتأتي من تجارة ما تبقى من سلاح الثورة بعد رحيلها عن عمان إلى بيروت، دفع بزوجته هذه للتدين الشكلي من حيث الملبس بعد أن كانت تعيش حياة الرفاهية والتحرر، ولم يعد يغادر المسجد بل وصار رجل إفتاء يقصده العامة يقصدونه دون غيره طمعاً في ماله الذي وظفه في شراء العوام والذمم وقضاء حوائج البعض منهم.

ولكن جهاد في معالجته ذهب أبعد من ذلك فتطرق لمن كانوا يحملون البنادق في حرب التحرير بالأمس وباتوا تجار سلاح اليوم ويعملون مع عدوهم في هذا المنحى، وظهرت هنا تاليا اليهودية التي إلتقاها مع حفنة من ثوار الأمس الذين توجههم تاليا كيفما تشاء وتتحكم بمصائرهم.

تاليا إستخدمت كل أسلحتها في تجنيد عواد بما فيها أنوثتها ولكن بطريقة أرادت منها أن تثبت تفوق اليهودي على العربي فكانت في كل لقاء تعتليه ولا تسمح له بإعتلائها ووضعت أمامه كل الشروط التي كانت فرضتها على الثائر السابق أبا ناصر وفق منهجية تقوم على تزويد السلاح لكل من يريد شريطة أن لا يوجه للكيان الصهيوني.

الرواية وثيقة وربما قراءة في واقع العرب المعاش الذي يعملون على تقسيم المقسم وضرب كل مقومات وحدتهم ونهوضهم، فعواد الباز يمثل كل مشايخ السلطنات وملوك الرمال الذين يتعانون مع الشيطان في حروبهم وثاراتهم الممتدة من ثقافة الصحراء والبدواة وعبرها، والجماعات التكفيرية هنا ليست إلا وليدة التعاون والتنسيق مع الكيان الصهيوني والرعاية الإمبريالية الأمريكية التي سهلت لأبي ناصر التقاعد والعيش على أراضيها بعد أن سلمت مهامه لعواد الباز والذي ذاق بدوره ألم ما عاناه غيره جراء جشعه وحبه للمال ففقد رجولة نجله. وهنا يحضرني تصريح تسيفي ليفني عام 2012 في مقاربتها عندما أعلنت عدم خوفها من الإسلاميين وهو ما يتوافق مع شخصية تاليا اليهودية في رواية "ذئب الله" طالما أن السلاح لن يوجه لمحاربة إسرائيل، ليفني لم تحدد وقتها من تقصد أهم من تعانقهم، أم من تستثمر فيهم، وكذلك فعلت تاليا بالسماح لعواد باحتضانها وللجماعات التكفيرية في الحصول على السلاح مقابل المال الذي معهم، وتاليا هنا أيضاً شايلوك في رواية شكسبير تاجر البندقية.

افتتحت الرأة الجلسة قائلة:

اليوم ينضم إلينا الذئب بديلا عن إبن أوى، وأشارت نحو أبي ناصر، ثم أكملت:لقد قدم إبن أوى الكثير ويحق له أن يستريح، وقد إختار أن يسافر هو وأولاده إلى أمريكا ليقيم فيها بقية عمره، وتعلمون أن الذئب أرسل في طلب الكثير من السلاح والذي لا بد أن نعرف إلى أين سيذهب حتى نضمن أن تظل تجارتنا مستمرة ولا نقع تحت غضب أحد. وأشارت إلى عواد ليتحدث فقال:

-كل ما أعرفه أنهم جماعة إسلامية.

-هذا يعني أننا نتعامل مع إحدى أذرع القاعدة. قالت السيدة.

-ماذا قاعدة! لا أعتقد.

- لن يطلبوا هذا السلاح إلا إن مولتهم القاعدة.

-ربما، لكني أعرف أن بعض من كانوا في الثورة قريبون منهم.

- هذا لا يعني شيئاً، اليساريون العرب من السهل التغرير بهم..... ثم أكملت:

- حتى يوافق الإسرائيليون على عقد الصفقة، لا بد وأن يضمنوا أن إسرائيل ليست مستهدفة بها، لذا عليك أن تؤكد لنا هذا الأمر.

-نعلم حساسيتكم فقد كان أبو ناصر مثلك لكن لا عليك أن تعرف كما عرف هو في النهاية.

فقدان الرجولة في ثقافة الشرق لها من المعاني والدلالات الكثير الكثير والتعبير المجازي هنا عند جهاد أبو حشيش يفتح الباب أمام النقد والتفكير فيما يدور في المحيط.

لقد أبدع جهاد في "ذئب الله" نصاً وصورة ودخل دوائر المحرمات لما يمتلكه من شجاعة، وهي رواية تستحق القراءة بلا أدنى شك لما فيها من لغة جزلة حاول فيها التموضع عند السهل الممتنع.