منذ فترة طويلة، استوقفتني في الشارع سيدة كبيرة في السن، وقالت لي: مع أنني أدرك أن ما تكتبه يعكس إلى حد كبير ما هو موجود في الواقع، لكن أرجوك أن تجمّل الواقع وأن تكذب علينا، لأن قلمك محترم وما تكتبه مقروء ومؤثر أكثر مما تعتقد. توقفت أمام ما قالته هذه المرأة، وأصبحت أكثر حرصًا على زيادة جرعة الأمل والتفاؤل فيما أكتبه.
ولاحظت في الأيام الأخيرة بعض التعليقات التي تقول بأنني متشائم. فهل أنا متشائم حقًا؟ بينما هناك من يقول بأنني من المجمّلين للواقع مع أنه بلغ من السوء - وفق نظرهم - إلى حد يفرض هدم كل شيء وإعادة بنائه من الصفر.
إنّ الكاتب رائد، و"الرائد لا يكذب أهله"، ويجب أن يكون صادقًا وينقل بأمانة ما يراه في الواقع. وقد تكون رؤيته غير صحيحة، ولكنه عليه أن يقدم توصيات واقتراحات تتضمن حلولًا، فالاكتفاء بعرض الأحداث مهمة الصحافي والمراسل، أما الكاتب فعليه ألا يكتفي بنقل ما يجري، بل من مسؤولياته أن ينقد الواقع نقدًا يستهدف البناء لا الهدم.
على الكاتب أن يسعى بمثابرة وجدية وإخلاص للإجابة عن أسئلة من قبيل: أين نقف الآن: في وضع سيئ أم جيد أم ما بينهما؟ وإلى أين نريد أن نصل: إلى تحرير فلسطين عن طريق تدمير إسرائيل، أم عن طريق هزيمة المشروع الاستعماري الاستيطاني الاحتلالي العنصري وإقامة الدولة الواحدة؟ وما هي المراحل التي يجب السير فيها حتى نصل إلى تحقيق هذا الهدف أو الأهداف: هل تتضمن إنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة العام 67؟ وكيف نحقق ما نريد: هل عن طريق المقاومة بكل أشكالها، أم المفاوضات والعمل السياسي والديبلوماسي، أم من خلال الجمع بين المقاومة والعمل السياسي، واختيار الشكل أو الأشكال المناسبة في كل مرحلة؟
إن التشخيص الصحيح للواقع والتاريخ أن نراه بعجره وبجره، ولا نكتفي برؤية الجوانب الجيدة وعناصر القوة والمكاسب، وما يحلو لنا وما يناسبنا، وما يبرهن على صحة وجهة نظرنا، بل يجب رؤية وعرض مختلف الجوانب الإيجابية والسلبية ونقاط القوة والضعف والتحديات والمخاطر والفرص، ويجب إعطاء أهمية خاصة في النقد للأخطاء والخطايا والسلبيات حتى نستفيد من التجارب ونتقدم إلى الأمام بأسرع وقت وبأقل الخسائر.
كما علينا إعطاء اهتمام خاص لما يعارض أو يتعاكس من حقائق ومستجدات مع وجهات النظر التي نتبناها، أي ليس المطلوب ليّ عنق الحقيقة لتناسب تصوراتنا وآرائنا، وإنما علينا أن نغير قناعاتنا باستمرار نحو الأفضل.
وليس من الخطأ، بل من الواجب، نقد الذات، فالاعتراف بالخطأ فضيلة، والتغيير سنة الحياة، ومن لا يتغير كما يقول آرنست همنغواي في رائعته "الشيخ والبحر" هم الموتى والحمقى الذين لا يغيرون آراءهم أبدًا. وأنا ارتكبت العديد من الأخطاء، ومعرض لارتكاب المزيد منها، ومن يعمل يخطئ، ولكن المحك التعلم من الخطأ لا تكراره.
إن الأمنيات والغايات لا تتحقق من العدم، أو عن طريق المُخلّص، أو بانتظار زوال إسرائيل في العام 2022، وإنما بوضوح الرؤية والنضال والعمل المثابر الجاد والانخراط الكامل بالواقع وحركته الفعلية ليس من أجل التعايش معه والخضوع له، ولا من أجل القفز التعسفي عنه، وإنما من أجل العمل لتغييره نحو الأفضل والمأمول وتحقيق الأهداف والحقوق.
لقد علمتنا التجارب السابقة ضرورة أخذ كل الآراء والاحتمالات في الحسبان، والبحث في كل السيناريوهات والخيارات والبدائل، فلا يوجد شخص أو حزب أو فكر يملك الحقيقة كلها أو من حقه احتكار الدين أو الوطنية، بل كل شخص يملك قدرًا من الحقيقة. ومهم جدًا في هذا الصدد التمعن بما قاله فولتير عن استعداده لتقديم حياته ثمنًا من أجل ضمان حق الآخرين بالتعبير عن رأيهم. ومثلما قال الإمام الشافعي "رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب". وأما الإمام أبو حنيفة فقال "رأينا هذا هو أفضل ما قدرنا عليه، فمن جاء بأفضل منه قبلناه". وأما الإمام مالك فقال "كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد عليه، ما عدا صاحب هذا القبر" (وأشار إلى قبر الرسول).
أين هذه الأقوال على لسان عدد من كبار الأئمة مما نراه من أصحاب الفكر الإرهابي التكفيري الإقصائي، وغيرهم والممتد إلى داخل معظم الأحزاب التي تصر على الدمج ما بين الدين والسياسة وعلى أنها تمثل الدين (الله على الأرض)، في حين توظفه لخدمة أغراض ذاتية وسياسية. فهؤلاء يدعون تمثيل الإسلام الصحيح والإسلام منهم براء.
لا شك أن واقعنا صعب جدًا، وهذا ليس تشاؤمًا وإنما قراءة صحيحة للواقع، وكما قال غرامشي عن حق "تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة"، وما يزيد الواقع صعوبة أكثر ما تعانيه القيادة والقوى الفلسطينية والنخب من عجز وتقادم، ومن حالة من التيه والانقسام والانتظار، وتغليب المصالح الفردية والفئوية والفصائلية والجهوية والعائلية على المصلحة العامة، ومن تغليب للسيطرة على السلطة وبقائها - مع أنها وسيلة وليست غاية - بما في ذلك بقاء الرئيس هنا في الضفة وبقاء السلطة هناك في غزة على كل شيء .
هناك احتمالات متعددة تواجه القضية الفلسطينية الآن تنضوي على مخاطر جسيمة أخطر ما واجهته في تاريخها كله، بما فيها احتمال أن نسير نحو كوارث (وهذا ليس تشاؤمًا وإنما قراءة دقيقة للواقع)، ولكن هناك احتمالات أخرى تبشر بمستقبل واعد، وتحمل معها أمل نستمده من:
أولًا: عدالة القضية الفلسطينية وتفوقها الأخلاقي، وأنها تمثل راية التحرر العالمي التي تحظى بتأييد واسع من قوى الحرية والعدالة والتقدم على امتداد العالم كله، وهي مسلحة بالشرعية الدولية التي رغم الغبن الذي تضمنته للحقوق الفلسطينية إلا أنها تضمنت الحد الأدنى من هذه الحقوق، وتقدم سلاحًا لا يجب التهوين ولا التهويل من شأنه.
ثانيًا: شعب متمسك بقضيته وحقوقه وتواجده على أرض وطنه، قاوم ومستعد لمواصلة المقاومة والكفاح الذي بدأه من أكثر من مائة عام رغم حجم المؤمرات والقوى المعادية، ومستعد للاستمرار في المقاومة مهما طال الزمن وغلت التضحيات. والدلائل على ذلك لا تحصى، كان آخرها أكثر من ربع مليون مصلٍ صلوا في الأقصى يوم الجمعة الماضي رغم الحواجز والمعيقات، ومنها كذلك إضراب "الحرية والكرامة" الذي يمكن أن يساعد على إعادة بناء وتنظيم الحركة الأسيرة والحركة الوطنية برمتها، واستمرار المقاومة بكل أشكالها، خصوصًا حركة المقاطعة والمقاومة الشعبية للاستعمار الاستيطاني وجدار التوسع العنصري، وحركة مقاومة الحصار الجائر لقطاع غزة، والنهوض الثقافي، فكلها تقدم براهين يومية بأن القضية الفلسطينية حية وستبقى حية وقادرة في النهاية على الانتصار.
ثالثًا: العمق العربي للقضية الفلسطينية، ومن دونه كان من الصعب، وربما من المستحيل، بقاء القضية الفلسطينية حية، وحصولها على الدعم والمكاسب التي حصلت عليها. صحيح أنها تراجعت في السنوات الأخيرة في سلم الأولويات العربية جراء ما شهدته المنطقة من حريق مستمر، إلا أن بناء حلف ناتو عربي إسلامي أميركي إسرائيلي ليس بالسهولة التي يتصورها نتنياهو وبعض المطبعين العرب، وذلك لسبب بسيط هو مكانة وتأثير القضية الفلسطينية، وصعوبة تجاوزها، إن لم نقل استحالة ذلك.
على الرغم من كل ما سبق، القضية لن تبقى حية من دون وجود من يدافع عنها، ويقف بالمرصاد لكل من يفرط أو يفكر بالتفريط بها. كما أنه من دون مواصلة النقد الجريء والمثابر والعميق، خصوصًا نقد القيادة والحكام والقوى والنخب والأفكار والعادات المقيدة للتقدم، لا يمكن السير على طريق تحقيق الأهداف وإنجاز الحرية والعودة والاستقلال والمساواة.