بدأت مشكلة قطر في عهد أميرها الذي انقلب على أبيه، حينما بدأت تستشعر شبه الجزيرة الصغيرة عقدة نقص حادة، تتمثل في صِغَر مساحتها وقلة عدد سكانها.. في نفس الوقت الذي أخذت تطمح فيه إلى لعب أدوار إقليمية ودولية أكبر من حجمها بكثير، ضمن رؤية متأثرة بالثقافة الانقلابية، عبر إحداث الفوضى، وخلط الأوراق واختراق المحرمات، متصورةً أن كل شيء يُشترى بالمال، حتى المجد الكروي واستضافة المونديال.
اعتمد أسلوب قطر في العهد الجديد على ماكينتها الإعلامية المتمثلة في قناة "الجزيرة"؛ حيث أوضح "حمد بن جاسم" أنه ليس بحاجة إلى طيران وعسكر، لأن قناة الجزيرة ستكون هي القوات المسلحة القطرية.. وبالفعل وظفت قطر إعلامها بذكاء؛ ما أعطاها قوة فعالة مكّنتها من لعب أدوار خطيرة، وحققت من خلاله أهدافا إستراتيجية لم تكن لتقدر على تحقيقها لا بالسياسة، ولا بالاقتصاد، بل أنها أدخلت للمنطقة ما يمكن تسميته بسطوة الجيوميديا، على غرار ديكتاتورية الجيوبولوتيك، لتصبح قطر قوة إقليمية ولاعبا أساسيا يُحسب لها حساب.
وتكمن مشكلة قطر بأنها حاولت الجمع بين المتناقضات؛ استضافتها الزعماء العرب ومعارضيهم على حد سواء، خوضها حرباً إعلامية على أميركا واحتضانها أهم وأكبر قاعدة أميركية في الشرق الأوسط، دعمها الخطابي للمقاومة وإقامة علاقات كاملة مع إسرائيل، تعزيز علاقاتها بجيرانها العرب وتوثيق علاقتها مع إيران.. زعمها أنها ضد التطرف، واستضافتها للقرضاوي .. ادعاؤها أنها ضد الإرهاب ومغازلتها للظواهري وبن لادن والزرقاوي.
كان مراسل الجزيرة يتباكى على ضحايا القصف الأميركي في بغداد والفالوجة (2003) ويتناسى أن الطائرات القاصفة إنما كانت تقلع بالقرب من مكتبه في الدوحة وبتسهيلات من رب عمله!! وتتكرر الصورة في العدوان الإسرائيلي على لبنان (تموز 2006) فبينما كانت الجزيرة تعرض صور الدمار وضحايا القنابل العنقودية وتبكي عليهم، كانت تتجاهل أن مصدر هذه القنابل هو القاعدة الأميركية في الدوحة، عبر طائرات أميركية تساند الجيش الإسرائيلي.. (حسب تقرير لمنظمة العدل الدولية). بل إن وزير الخارجية القطري وصل إلى بيروت أثناء الحرب لحضور اجتماع وزراء الخارجية العرب قادما من إسرائيل على متن طائرته الخاصة، وهو الوحيد الذي وصل بيروت جواً بعد أن استأذن إسرائيل في ذلك، بسبب الحظر المفروض على الأجواء اللبنانية!!
المشكلة ليست في الشطارة أو الإخفاق في الجمع بين المتناقضات.. المشكلة في الأدوار التي لعبتها قطر خلال العقدين الأخيرين.. ومع أنه يصعب تقديم كشف حساب كامل، ولكن لنحاول، وباختصار:
في ذروة الحرب على العراق وأفغانستان استضافت قطر مسؤولين أميركيين وقادة عسكريين ليستخدموا شاشة الجزيرة لتبرير عدوانهم وتوضيح وجهة النظر الأميركية في الحرب.. وتتكرر الصورة في استضافتها لقادة إسرائيليين تمكنوا من خلال الجزيرة من كسر حاجز العداء الشعبي العربي لدولة إسرائيل، سيما وأن الجزيرة أدخلتهم لكل بيت عربي وأسمعت صوتهم لكل مواطن وأعطتهم فسحة لشرح وجهة نظرهم، والغريب أن "الجزيرة" بعد ذلك تستضيف أشرس الخطباء المنددين بالتطبيع!!
علاقات قطر المريبة مع تنظيم القاعدة وداعش، والتي توضحت من خلال سهولة وصول مراسلي الجزيرة لقيادات تحاول المخابرات العالمية الوصول إليها، وبثها تسجيلات صوتية لقيادات القاعدة، وتقديمها دعما خفيا لجماعات موصوفة بالإرهاب في سورية والعراق وليبيا، سواء بدفع مبالغ مالية ضخمة على شكل فدية، أو عقد صفقات شراء أسلحة وسيارات، أو من خلال الدعم الإعلامي غير المباشر..
وتوثيق علاقاتها الخفية مع تلك الجماعات الإرهابية، إنما يأتي في سياق إستراتيجيتها للإمساك بمختلف الخيوط، ولعب دور الوسيط، الذي تحتاجه مختلف الأطراف..
اختلقت قطر أزمات سياسية مع السعودية والبحرين والأردن ومصر والعراق ومعظم الدول العربية، بسبب علاقتها المريبة مع إيران، وعلاقتها الملتبسة مع مجلس التعاون الخليجي، وبسبب تدخلها الدائم في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.. وتصرفها مع الآخرين بفوقية وكأنها مركز العالم، وكأنها الوصي على قضايا حقوق الإنسان والحريات العامة، والحريصة على القضية الفلسطينية أكثر من أصحابها.
دعمت قطر ومولت الانقسام، وشجعت "حماس" على خطوتها، وكانت كلما أوشكت فتح وحماس على الاقتراب من حل ينهي الانقسام، تأتي قطر وتقدم مزيدا من الإغراءات لحماس بمشاريع إسكانية ودعم مادي ووعود بحلول لمشاكل الكهرباء والموظفين.. حتى أنها الوحيدة التي لها سفارة في غزة.. وما زالت ترفض تقديم أي دعم لغزة من خلال السلطة.
ولم تكتف بتوريط حماس بالانقسام، فقد ضغطت عليها وأغرتها لمغادرة دمشق، والتخلي عن الحليف الإيراني.. وها هي تتنصل منها تدريجيا.
ومن خلال "الجزيرة" قدمت رواية مشوهة عن النضال الفلسطيني، ومسخت كل ذكرى جميلة من التجربة الناصرية، وخلقت في كل بلد عربي أزمة، وشوهت قيادات وطنية وضللت الناس، وجعلت من أشباه مثقفين وشعبويين أبطالا ونجوما في عالم الإعلام والمزايدة. فضلا عن دورها في تخريب ليبيا وسورية، وخلق أزمات في مصر.
لا ننكر أن "الجزيرة" خلقت حالة من الوعي الجماهيري العربي بقضايا الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وسلطت الأضواء على مكامن الفساد في أكثر من موقع، وكشفت جانبا من ممارسات الأنظمة البوليسية القمعية، وأن مراسليها يعرضون حياتهم للخطر لنقل صورة حية عن الأحداث.. ولكن هذا كله كان يمكن أن يتم بمحتوى أخلاقي ووطني ومهني أفضل مما فعلت الجزيرة.
ولتمرير سياساتها، والتغطية على ممارساتها استعانت قطر بشخصيات اعتبارية؛ مثلا "القرضاوي"، قدم خدمات مهمة لقطر، أهمها تبرير ممارساتها الداخلية والخارجية بسند شرعي، حتى أن مراقبين فسروا استضافتها للقرضاوي بأنها محاولة لخلق مركز ديني قطري يوازي المراكز الدينية في مكة المكرمة والأزهر الشريف والنجف الأشرف. وأيضا لعب عزمي بشارة دورا مشابها، ولكن بتقديم تبرير أيديولوجي وسياسي.
طوال الفترة الماضية استقوت قطر بالأميركيين، واستفادت من سياسات الإدارات الأميركية السابقة التي تساوقت معها.. واستخدمتها.. لكن الأمر اختلف مع إدارة ترامب، مع إستراتيجيتها الجديدة في ما تسميه "مكافحة الإرهاب"، وقناعتها بأن الدور المزدوج الذي تلعبه قطر لم يعد مناسبا.. خاصة بعد أن وثقت علاقتها بالسعودية، وبالمحور المناهض لإيران..
يصعب التنبؤ بمستقبل قطر.. لكن من شبه المؤكد أنها لن تعود قادرة على ممارسة أدوارها السابقة.. وأنها سترجع إلى حجمها الطبيعي، أو أقل قليلاً.