وأخيراً أبصرت الحكومة الإسرائيلية الجديدة النور على وقع الاستيطان وتهويد القدس الشرقية، ومعها بدأت التحركات الأوروبية للبحث في إمكانية عودة المفاوضات الثنائية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وسط موقف أميركي منشغل في أولويات أخرى غير هذا الملف.
الأوروبيون تحركوا سياسياً للتأكد من مدى التزام رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو من موقفه المتعلق بحل الدولتين، خصوصاً بعد تصريحات خطيرة كان قد أطلقها قبل فوزه في انتخابات الكنيست، تتصل برفضه قيام دولة فلسطينية مستقلة وأنه لن يسمح بوجودها طالما بقي في السلطة.
قبل أن تبصر حكومة نتنياهو النور، صدرت قرارات إسرائيلية ببناء وحدات استيطانية في الضفة الغربية، تبعها استكمال مثل هذه الخطوات حين أعلن عن الحكومة الجديدة، ومثل هذه الإجراءات تفسر بأن حكومة نتنياهو المتطرفة هي حكومة استيطانية عدوانية لا تمتلك أجندة تتعلق بعملية التسوية.
هذه ليست سياسة إسرائيلية فحسب، بقدر ما أنها رسالة للمجتمع الدولي تقول للعالم إن الحكومة الجديدة ماضية في الاستيطان، وأنها ستستكمل مخططاتها لتهويد القدس الشرقية، والله أعلم بعد ذلك الحديث الرسمي عن اعتبار القدس عاصمة تل أبيب.
هذا ليس كلاماً في الهواء، خصوصاً وأن مجلس الوزراء الإسرائيلي أصدر حديثاً مجموعة من القرارات التي تستعجل تهويد القدس الشرقية، وخصص موازنات تسبق الاستعداد للاحتفال بما يسمونه اليوبيل الذهبي لاحتلال القدس الشرقية وضمها إلى الغربية.
بعد ذلك يخرج علينا نتنياهو بتصريحات جديدة "تلحس" تلك الأخيرة التي يؤكد فيها على عدم قيام دولة فلسطينية، إذ يقول الرجل لضيفته فيدريكا موغيريني مسؤولة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، إنه مع حل الدولتين.
ليس هناك من هو أذكى من هذا الماكر نتنياهو في فنون المراوغة السياسية، حيث أسمع موغيريني ما يريده الاتحاد الأوروبي، وكذلك الحال بالنسبة للولايات المتحدة التي قال رئيسها باراك أوباما إن واشنطن قد تعيد تقييم سياساتها في الشرق الأوسط، على هامش تصريحات نتنياهو المعادية لقيام دولة فلسطينية.
مثل هذا التصريح يتزامن مع مساع فرنسية للذهاب إلى مجلس الأمن الدولي، عبر مبادرة تستهدف عودة المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي وفق مدة زمنية لا تتجاوز 18 شهراً، تستند إلى مبدأ حل الدولتين وإعلان دولة فلسطينية على حدود العام 1967 مع إمكانية تبادل أراضٍ بين الطرفين.
نتنياهو يريد مواصلة الاستيطان وابتلاع الضفة الغربية واعتبارها "حكورة" لمنزله، وفي ذات الوقت يعود إلى نغمة موقفه الإيجابي من حل الدولتين وعودة المفاوضات، ومع ذلك يتدخل الحظ إلى جانبه مع الضغوط التي مارستها واشنطن على باريس من أجل وقف جهود الأخيرة لتحريك عملية السلام.
يبدو أن باراك أوباما أخذ قراراً بترحيل ملف الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي إلى خليفته المقبل، أي مرحلة ما بعد انتهاء ولايته الرئاسية، وهذا الموقف ربما يأتي في إطار عاملين، الأول يتصل بموقف الرئيس الأميركي من نتنياهو وسلوكه السياسي وتنافر كيمياء العلاقة بينهما.
بمعنى أن واشنطن التي تدخلت قبل ذلك في المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، لم تحصد ثمار تدخلها وأهين وزير خارجيتها جون كيري من قبل الساسة الإسرائيليين، كما زاد الخلاف بين أوباما ونتنياهو، ولو أنه خلاف على التكتيك وليس الجوهر.
العامل الثاني له علاقة بأولويات الولايات المتحدة لجهة التنافس مع روسيا والصين على قيادة وتشكيل النظام الدولي، وبما يعطي مؤشرات على أن واشنطن تعتزم نقل اهتمامها من منطقة الشرق الأوسط إلى مناطق أخرى في آسيا على سبيل المثال، وهذا يحصل فعلاً.
أضف إلى ذلك أن من أولويات الولايات المتحدة تسوية الملف النووي الإيراني، وهي لا ترغب أن يتقاطع هذا الجهد مع فكرة إعادة المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية، ثم إنها ضغطت على فرنسا في موضوع مبادرتها التسووية من أجل إبعاد الضغط الدولي وعدم إحراج إسرائيل في ذلك.
إذا كان هناك من داعٍ لمفاوضات فلسطينية- إسرائيلية باعتقاد واشنطن، فإنه ينبغي أن يكون في عهدة إسرائيل، بحيث أن لا يخضع التفاوض إلى مرجعية دولية وأجندة زمنية، بقدر ما هو موقف أميركي متساوق مع نظيره الإسرائيلي للاستفراد بالملف الفلسطيني.
مع ذلك، فإن شخصاً مثل نتنياهو يسحب يده للفلسطينيين من جهة، ويصفعهم في وجوههم ليلاً نهاراً، وفي مقابل ذلك يحمل غصن الزيتون للعالم ويقول إنه مع السلام، وبطبيعة الحال يدرك الفلسطينيون مثل هذه الألاعيب، خصوصاً وأن عقلية نتنياهو لا ترضى ولا تتعايش مع فكرة السلام.
وعلى كل حال، لو أراد الأوروبيون والأميركيون الحديث عن مفاوضات جادة وذات قيمة، فإن عليهم قبل ذلك ثني حكومة نتنياهو عن طرح وحدات استيطانية والتوقف التام عن إحداث تغيير استراتيجي في جغرافية الضفة الغربية لصالح إسرائيل.
لا يكفي الشجب والإدانة أو رفض المنتجات الاستيطانية في الأسواق الأوروبية، لأنه بدون عقاب وضغط قوي وفاعل فلن تؤثر جميعها على السلوك الإسرائيلي الذي يمتلك وجهين، واحد ينشد للسلام والثاني يطبّل للحرب وافتراس الجغرافيا، وينبغي اتخاذ إجراءات حقيقية تقيم هذا السلوك ومتبوعة بخطوات تصعيدية ضد حكومة الاحتلال.
الفلسطينيون حددوا موقفهم من أي عملية سلام مستقبلية، واستندوا في إطلاقها إلى اشتراطات لم تقف خلفها إرادة صلبة، لكنها حاضرة اليوم وتتعلق بوقف الاستيطان والقبول الإسرائيلي لحل الدولتين على حدود 1967 وإطلاق سراح الدفعة الرابعة من أسرى ما قبل أوسلو.
جيد أن يتمسك الفلسطينيون بشروطهم، وجيد جداً أن يحافظوا على هذا الصمود ولا ينجروا إلى مغامرات مفاوضاتية بدون مرجعية تفاوضية، لأن الذهاب إلى عملية سلام مجتزأة المعالم ومجهولة المصير، ستقود حتماً إلى حقل ألغام قابل للتفجر.
الكرة الآن في الملعب الإسرائيلي، وينبغي على أوروبا أو غيرها، إن قدر لهم إيجاد فرص للدبلوماسية في الشرق الأوسط، أن يطالبوا نتنياهو بقبول الاشتراطات الفلسطينية قبل الشروع في مفاوضات جديدة، أو تتكرر القصة بإعادة تدوير مفاوضات تستهلك من الوقت والجهد ولا تؤدي في الأخير سوى إلى منع قيام دولة فلسطينية عبر الفعل الاستيطاني الإحلالي الإسرائيلي.
أخيراً يجوز القول: إن نتنياهو الذي أعاد ترتيل كذبة أنه مع حل الدولتين، لم يكن صادقاً كما كان يتحدث ويعمل عكس قيام الدولة الفلسطينية لينتصر في انتخابات الكنيست منصف آذار الماضي، وهو لن يخالف عقيدته التي تلفظ أي دولة فلسطينية ذات سيادة وقابلة للحياة.
أبو ردينة: مستقبل المنطقة بأسرها مرتبط بحل القضية الفلسطينية
29 سبتمبر 2024