تعد الدولة ككيان سياسي أكثر الظواهر السياسية وضوحًا وتحديدًا على خريطة العالم السياسية، فهي المحور الأساسي للاهتمام في مجال الجغرافيا السياسية؛ ولفهم السلوك السياسي لدولة ما، وإدراك علاقاتها الداخلية والخارجية، وقوة تأثيريها في الساحة الإقليمية والدولية، يجب معرفة نقاط القوة والضعف التي تتمتع بها جغرافيتها، والإيجابيات والسلبيات لمناخها وتضاريسها ومساحتها، وموقعها الجغرافي وعدد سكانها ومواردها الطبيعية؛ فكل ذلك يأخذ في الحسبان عند قياس قوة الدولة في المعادلة الدولية؛ زمن الحرب والسلم ، ويأخذ الموقع الجغرافي وأثره أهمية كبيرة في تحديد دور ووزن الدولة في أي معادلة، ويتم حساب أهمية الموقع الجغرافي لأي دولة من خلال خمس محددات رئيسية، هي: موقع الدولة من الممرات المائية الدولية، الموقع بالنسبة لليابس والماء والموقع بالنسبة للدول المجاورة، والمواقع الهامشية والمركزية والمواقع الاستراتيجية.
وتعيد لنا الأزمة الخليجية الحالية بين دول الخليج ومصر من جانب قطر من جانب أخر، التذكير بأهمية الجغرافيا السياسية في تحديد أدوار وأوزان الدول في السياسة الدولية والإقليمية، فرغم الإمكانيات المالية والاقتصادية والإعلامية الهائلة التي تتمتع قطر، إلا أن جغرافيتها السياسية ووقوعها بين عدد من دول الخليج، جعل من الإمارة الصغيرة محل ضغوط سياسية واقتصادية هائلة، عقب اعلان معظم دول الخليج عن فرض مقاطعة سياسية واقتصادية وجوية وبرية على قطر، بسبب سلوكها السياسي. فثمة العديد من الدلائل التي تؤكد أن أوراق القوة والضغط التي تمتلها دول الخليج في مواجهة قطر تعود في جلها لموقع قطر الجغرافي.
فعلي الرغم من تعدد أسباب الأزمة الخليجية الراهنة، إلا السبب الرئيسي لها يعود لتجاوز قطر دورها ووزنها السياسي حسب موقعها الجغرافي، عبر تمددها شرقًا وغربًا؛ الأمر الذي شكل تهديد على مكانة دول كبرى في المنطقة، فقد استغلت إمارة الغاز حالة الفراغ السياسي في المنطقة عقب انطلاقة الحراك الشعبي العربي وحاولت تنصيب نفسها زعيمة لهذه الأمة، متجاوزة بذلك عواصم كبرى دجرت بسلوكها السياسي، فقد عملت قطر خلال السنوات الماضية على اتهاج سلوك سياسي مختلف تماماً عن سلوك دول الخليج، عبر إقامة تحالفات مرنة، وعلاقات متوازنة مع العديد من القوى الدولية والإقليمية، فقد اقامة علاقات مع إيران وإسرائيل وتركيا، وأمريكا، وشرعت بإقامة تحالف استراتيجي بينها وبين الجماعات الإسلامية في المنطقة، التي رأت فيها قطر الوريث الشرعي لأنظمة الحكم في الدول العربية، حتي أضحت قطر الراعي الرسمي والوكيل الحصري لهذه الجماعات، ولعبت دور محوري في الوصول لتفاهمات بين القوى الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وحركات الإسلام الطامحة للوصول للسلطة، فمنذ أن ربطت أمريكا بين تفشي ظاهرة الإرهاب والعنف الذي ضرب أمريكا في الحادي عشر من سبتمبر 2011 وبين غياب الديمقراطية في الوطن العربي، شرعت في ممارسة ضغوط سياسية واقتصادية على أنظمة الحكم في المنطقة بهدف تعميم الديمقراطية، الأمر الذي جاء في صالح الدور القطري باعتبارها الراعي الرسمي لهذه الحركات، مما سمح لقطر بلعب دور محوري في السياسة الدولية والإقليمية، خاصة عقب انطلاقة ما بات يعرف بثورات الربيع العربي مما شكّل تهديد لأمن واستقرار لدول الخليج الأخرى.
خلال العشرون عام الماضية انتهجت قطر سياسة خارجية مختلفة تمامًا عن السياسة التقليدية التي درجت دول الخليج على اتباعها مع المملكة العربية السعودية، باعتبارها الدولة الرائد في الخليج العربي، وصاحبة النفوذ الأكبر في رسم السياسة الخليجية والعربية، نظراً لمكانتها الدينية والسياسية والاقتصادية، فقد اعتادت دول مجلس التعاون الخليجي منذ تأسيسه عام 1981 إلى بناء "سياسة خارجية مشتركة"، تراعي الحد الأدنى من التنسيق والتشاور بين مختلف مكونات المجلس.
لكن أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، عمل على "إخراج" بلاده من تحت العباءة السعودية؛ راسمًا خطوطًا جديدة لسياسات بلاده الخارجية مستقلة ومتعارضة في بعض الأحيان مع سياسة السعودية، وهو ما أدى إلى بروز اسم قطر في الساحة الدولية. فقد لعبت قطر دوراً في السياسة الخارجية يفوق حجمها المتواضع، فخلال السنوات الماضية قادت جهود الوساطة في الصحراء الغربية واليمن السودان، ومنذ اندلاع الانتفاضات العربية استخدمت وسائل إعلامها ونفوذها المالي والسياسي لدعم المتمرّدين في العديد من الدول العربية، مما أثار حفيظة العديد من أنظمة الحكم في المنطقة، التي رأت في السلوك القطري تجاوزًا لخطوط حمراء على المستوى السياسي والاستراتيجي، وشهدت السياسة الخارجية لقطر تحولات في تعاملها مع محيطها الجيوسياسي؛ فبعد أن اتسمت سياستها الخارجية بالوساطة خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، انعطف مسارها بعد اندلاع شرارة "ثورات الربيع العربي" لتدخل في طور التأثير والنفوذ، بعد أن اتخذت قطر موقفًا مؤيدًا للثورات في كل الدول العربية، فقد وضع أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة بلاده على الخريطة الإقليمية كلاعب يتنافس مع قوى إقليمية أكبر منها بكثير، مما أثار حفيظة مصر والسعودية.
رغم أن السياسة الخارجية القطرية استطاعت خلال العشرون عاماً الماضية كسر كثير من المحرمات والخطوط الحمر في المعادلة الدولية والإقليمية، مستفيدة من التحولات السابقة التي هبت على المنطقة، والتي أدت لبروزها كقوة فاعلة في الساحة الإقليمية والدولية؛ إلا أن الرياح جاءت أيضاً بما لا تشتهى سفن إمارة الغاز، فالتحولات التي هبت على المنطقة من جديد في طريقها لتعيد إمارة الغاز لمكانتها الطبيعة، كدولة صغيرة ضمن منظومة مجلس التعاون الخليجي وليس خارجه، لأن المملكة العربية السعودية التي تنافس مصر على الزعامة العربية لن تسمح لأي دولة مهما امتلكت من إمكانيات مالية أو اقتصادية أن تنافسها على زعامة منطقة الخليج والعبث بأمنها واستقرارها، لذلك فأن الأزمة الحالية سوف تنتهى عندما تدرك قطر من جديد حدود وقواعد اللعبة مرة أخرى، عقب استيعاب درس الجغرافيا السياسية.