استيقظت الساعة الرابعة صباحاً، علماً أنني لم أحظ بقسط كاف من النوم، كعادتي في مثل كل زيارة لأخي في المعتقل، منذ ما يزيد على 15 عاماً، حيث يشغلني التفكير طوال الليل بكيفية سرد أخبار الأولاد والأصدقاء والعائلة، وما يجب أن أقوله وما لا يجب...... ولا أنام.
ولكن هذه الزيارة كانت مختلفة بعض الشيء، حيث علمنا منه في الزيارة السابقة نية الأسرى خوض إضراب عن الطعام لتحقيق مطالبهم الشرعية، ورغم أنه لم يكن الإضراب الأول للأسير محمد عبّاد المعتقل منذ العام 2001، لكن هذه المرة أخي على أبواب الأربعين، ويعاني عدداً من الأمراض التي سببتها سنوات السجن الطويلة والحرمان من التغذية الجيدة، والافتقار إلى أبسط أنواع الرعاية الصحية التي تكفلها الشرعية الدولية للأسرى، فهو بحاجة إلى أدوية وعلاج طويل وكمية من الماء.... والإضراب سيزيد مرضه ويضعف جسده النحيل أصلاً.
كيف سيكون اللقاء؟ ماذا سأقول له؟ هل أقول أو أكتفي بالاستماع له؟ فهو الذي لم يحظ برؤية والده بسبب مرضه الطويل وتوفي أبي دون أن يودعه، ومثله جميع الأسرى الذين فقدوا ذويهم وليد دقة الذي لم يسمح له بالاتصال بوالده الذي كان يحتضر شهرين قبل وفاته عام 1997 وتوفي وفي نفسه غصة لم تبارحه حتى اليوم، ولا حسام شاهين الذي توفي والده عام 2016 ولم يسمح له بوداعه.
أخذت والدتي من بيتها وانطلقنا إلى حيث تقف باصات الصليب الأحمر، لنقل أهالي الأسرى إلى المعتقلات، أطفال ونساء وشيوخ بعضهم على كرسي متحرك يصعدون إلى الحافلة، تهاني مراغة زوجة الأسير عدنان مراغة تصحب طفليها هشام وجوري معها لزيارة والدهم الذي لم يحظ لا بلحظات ولادتهم ولا تربيتهم ولا سماع كلماتهم الأولى ولا رؤيتهم يكبرون أمامه.... عدنان من الأسرى الذين أفرج عنهم في صفقة (شاليط)، ثم أعيد اعتقاله بعد زواجه بشهور قليلة، كانت زوجته حاملاً بطفليه هشام وجوري.
ينطلق الباص بحدود الساعة 5:50 لنصل الساعة 7:30 تقريباً، يصطف الأهالي أمام باب السجن، نصف ساعة تمضي وساعة أخرى، تحت البرد أو المطر، لا يهم..؟؟؟؟ ثم يفتح الباب ليسمح بدخول شخص كل (5-10) دقائق وربما أكثر، بعد تفتيش دقيق، وصراخ وتذمر من السجان ومعاملة مهينة.
يدخل الفوج الأول إلى القاعة المغلقة، لا نوافذ ولا مقاعد سوى قطعتي خشب طويلتين مليئتين بقاذورات الحمام فالسقف غير مغلق تماماً، وفي حدود الساعة 10:30 يدخلونك إلى قاعة أخرى بعد أن يتم جمع بطاقات الهوية والتأكد من حامليها وأنهم من الأفراد المسموح لهم بالزيارة، إذ يحرم البعض من الزيارة لأسباب كثيرة ومتنوعة، فقد حرم اهل حسام شاهين والمعتقل في كانون ثاني 2004 من زيارته لمدة تزيد على الخمس سنوات وفقط في المحاكم العسكرية بداية.
ندخل بعد ذكر أسمائنا إلى قاعة أخرى يتم تفتيشنا بشكل دقيق باستخدام ماكنة خاصة، وقد نضطر إلى خلع بعض ملابسنا لأنها تجعل الجهاز يصدر رنيناً. شعور بالإهانة في كثير من الأحيان. ثم قاعة أخرى، لا نوافذ ولا منفس والجميع متلهف لرؤية ولده أو ابنه أو أخيه. وقد يتساءل البعض هل في زيارتنا لهم يعاقبون الأهالي أيضاً، لذلك يمارسون تجاههم كل هذا الاضطهاد والقهر والذل؟؟
نسير جميعاً في ممر ضيق مسقوف عليه سياج يبلغ ارتفاعه 5 أمتار أو أكثر، يجلس فيها الأسرى كل على نافذة يفصلنا عنهم زجاج سميك وقذر أحيانا فلا نراهم بشكل واضح وسماعتين تكون إحداهما لا تعمل في بعض الأحيان، ونجلس قبالته على لوح من الخشب كأنها مقاعد للجلوس.
تبدأ الزيارة التي يكتب لها أن تنتهي في 45 دقيقة دون أن نقول شيئاً، فوالدتي تبدأ بالبكاء وأطفال عدنان مراغة يبدأون بالبكاء "بابا تعال بابا تعال"، وزوجته تبدأ بإقناعهم أن بابا غير مسموح له الخروج من السجن وأنه معتقل... تفاصيل لا يفهمونها ولا يريدون فهمها، كل ما يريدونه هو احتضان الأب لهما في تلك اللحظة...!!!!
وقد يسأل البعض لماذا يسمح للسجين إيجال عمير قاتل رابين بالاختلاء بزوجته وعائلته واحتضانهم في زيارة عائلية، ولا يسمح للأسير وليد دقة (56 عاماً) والمعتقل منذ 31عاماً بلقاء زوجته سناء(47 عاماً)، فقد أنجبت زوجة إيجال وهو معتقل، وسناء دقة تحارب في المحاكم الإسارئيلية منذ ما يزيد على 12 عاماً للقاء زوجها أملا في إنجاب طفل لهذين الحبيبن الذين حرمهما السجان من لقاء حميمي هو حق لهما؟؟
المفارقة أن حال وليد دقة كحال 14 من المواطنين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية والمعتقلين في السجون، وعندما يكون هناك اتفاق سياسي أو صفقة تبادل فهم خارج الصفقة لأنهم يحملون الجنسية الإسرئيلية، وعندما يطالبون بحقوق المواطنة يصبح الخطاب" أنتم ارهابيون فلسطينيون" أين هي العدالة؟
في الزيارة بدأ محمد عبّاد بقوله أود إعلامكم أن الإضراب سيستمر حتى نيل مطالبنا وأنه سيصل إلى مسامعكم أن محمد عبّاد تم نقله وربما في العزل الإنفرادي، أريدكم أقوياء؟؟؟ ويضيف قد نموت خلال الإضراب، ولكنني يا أمي افضل أن أموت على أن لا أحتضن اختي وابنها الصغير الذي يكتب في رسائله لي عن مدى شوقه لأن أضمه بين ذراعي وألعب معه.
أولادي حسام 21 عاماً ولين 18 عاماً وحلا 14 عاماً ورامي 10 أعوام، لم يروا خالهم منذ 16 عاما؟؟؟. ابنتي الكبرى أمنيتها أن تنهي الثانوية العامة وتكون هديتها رؤية خالها. هل تراه مطلباً لا يمكن تحقيقه..؟؟؟ في العيد حسام دائماً يقول لجدته "طاولة الغداء ينقصها خالي محمد"؟؟ إلى متى؟؟؟؟؟ جارنا توفي وقبل اسبوع التقيته وهو يرسل سلامه ويتمنى لك الحرية القريبة، وخالتك ميمنة تتمنى أن تراك قبل أن تموت، كلمات قاسية!!، صعبة ؟؟ لماذا تُمنع خالتي البالغة من العمر 71 عاماً من زيارته؟؟ أليس هذا هو الاضطهاد بعينه؟؟
انتهت الزيارة ودموع القهر تملأ عيني والدتي التي تذكرت وفاة أبي رحمه الله بينما هي تزور ولدها، وتقول لي لا أنسى كيف أنني لم أتمكن من وداع حبيب عمري الذي دام زواجهما 45 عاماً، وقصة حب دامت 5 سنوات قبل ذلك. توفي دون أن تقول له أحبك ولطالما أحببتك لأن واجباً آخراً كان ينتظرها هناك خلف قضبان السجن. إذن لم يكن هذا هو القهر، فما هو القهر؟؟.
وفي الدقائق الأخيرة قبل خروجنا من الغرفة تنقلنا بين بعض الأسرى لنلقي السلام الذي قلمّا نجد وقتاً لتبادله مع الآخرين، 45 دقيقة من الوقت مع وجود 3 زائرين للأسير هي وقت قليل جداً كل شهر أو حتى كل أسبوعين؟؟.
ثم خرجنا من القاعة بالطريقة التي دخلنا بها، واستلمنا هوياتنا على آخر أبواب المعتقل، ومنه إلى باص الصليب الأحمر، لننتظر ساعات أخرى تحت الشمس صيفاً والشتاء والبرد شتاءً حتى خروج الفوج الثاني من الأهالي.
وهنا يبدأ الأهالي بالحديث عن أحوال أبنائهم، عدنان مراغة ذهب إلى المستشفى مرتين لأنه يعاني من ألم حاد، وليد دقة في العزل الانفرادي وصحته تدهورت وخسر من 15 كغم من وزنه، الفرنسي (الأسير البرغوثي)انتقل من هداريم إلى جلبوع، ولكنهم أعادوه إلى هداريم.... قصص، مرضهم، وتنقلاتهم المرهقة، ومنع الزيارات عن بعضهم....؟؟؟
نصل القدس قبل غياب الشمس بقليل... ونقول هل على أم الأسير أن تخرج من بيتها في ساعات الفجر الأولى لتعود بعد 9-15 ساعة لتزور ولدها 45 دقيقة؟؟ أين الإنسانية؟؟ الرحمة؟؟ أين العدل؟؟.
غادرنا كل إلى بيته... نحمل كثيراً من الحزن، والأسى وكثيراً من الشوق، والأسئلة، لماذا العقاب الجماعي؟؟؟ لماذا التمييز العنصري؟؟ إلى متى سيستمر هذا المسلسل الاضطهادي للأسرى وذويهم؟؟؟