تشهد شعوب الأمة العربية ودول الإقليم تطورات دراماتيكية غير مألوفة، فالتحالفات التاريخية بين الأشقاء والأصدقاء إنقلبت رأسا على عقب. لم يعد شيء على حاله. رياح عاصفة قلبت المعايير والقيم والأعداء والأصدقاء. ما كان محرما بالأمس بات مباحا اليوم، عدو الأمس امسى صديق اليوم، الأساسي بالأمس أصبح ثانوي، والعكس صحيح. لاقضايا مركزية في أجندات الدول وأنظمتها، الثابت الأساسي في سياسات الدول والقيادات السياسية، هو مصالحها وبقاء حكامها. والتقرير في هذه المسألة نسبي ولحظي، فما يمكن ان تعتقده هذه الدولة او تلك بانه يصب في مصلحتها، قد يكون على النقيض تماما من ذلك في اليوم التالي او يوم غير بعيد، لاسيما وان شلال التحولات الجارف، قد يبطل كل حساب منطقي في غمضة عين.
هذه السيولة في مركبات وتطور الأحداث، تشير بشكل واضح وعميق إلى ان شعوب ودول المنطقة مازالت تخضع لعاصفة مبدأ "الفوضى البناءة" الأميركي، الذي حطم كل المحرمات، وفتح الأبواب على مصاريعها دون محاذير. كل حاكم يبحث عن رأسه وحدود سيطرته مقابل تقديم الولاء والطاعة للسيد الأميركي، ودفع الأتاوات والضرائب المستحقة عليه. لا فرق عند هذا الحاكم او ذاك مع من يتحالف او مع من يتصارع، لإن النقطة المركزية، التي تشخص عيونه إليها، هي حماية الذات.
كنت اول امس كتبت في هذه الزاوية عن "خلفيات دعم تركيا لقطر"، اوضحت فيها ما يجري من خلط في صيغ التحالفات الهلامية، واكدت على حقيقة اساسية عنوانها نفي اي صراع طائفي او مذهبي بين المسلمين، وإن ما يجري من صعود وهبوط في التحالفات، وإنتقال دراماتيكي بين مركبات التحالفات، ليس سوى عملية هندسية وجبرية لغاراتمية اعدها ويشرف على معادلاتها المتحركة فريق متخصص من أجهزة الأمن الأميركية الإسرائيلية، صاحبة المصلحة الأساسية في هذه التحولات الخطيرة. لا سيما وأن الشروط الذاتية مهيأة في الواقع العربي، وقابلة للتطويع وفق مشيئة أصحاب القرار.
هذا الإستنتاج الهام يحتم على المراقبين السياسيين والإعلاميين الإمساك به، والبناء عليه في قراءة كل التحولات الجارية، وعدم تغييبه للحظة دون إغفال تداعياته على الأرض.وبالتالي لا يجوز ان يغيب للحظة العامل المحرك والأساسي لما يجري في المنطقة، ومن يقف خلف كل هذه التحولات الهائلة. بتعبير آخر القفز عن هذا الشرط يوقع المراقب في متاهة الخلط بين الثانوي والأساسي. وضع مبضع الجراح على التفاصيل والأسباب الكامنة، التي طفت على السطح مهم، لكن الأهم هو وضع اليد على المحرك الأساسي لكل الأورام والأزمات والصراعات المتفاعلة في المشهد العربي عموما والخليجي خصوصا.
وما يفاقم الأزمة والصراعات الدائرة يتمثل في غياب القوى الوطنية والقومية الديمقراطية، التي تعيش في حالة موات إكلينيكي، غارقة في ازماتها البنيوية العميقة، وإن شاءت تأكيد الذات تتدثر ببيانات هامشية غير مسموعة وواهنة، لا يجمعها جامع، لإنها مشتتة الإتجاهات، أو اسيرة أجندات وولاءات إقليمية دينية وسياسية متناقضة مع مصالح شعوب الأمة وطموحاتها بالتغيير او الإصلاح الحقيقي. الأمر الذي يشي بأن المخطط الأميركي الإسرائيلي ذاهب إلى مدياته الإستراتيجية في قصم ظهر انظمة الدولة الوطنية بكل تلاوينها ومسمياتها القائمة.
كما أن غياب ظهير (حليف) دولي قوي يعتمد عليه في التخفيف بحد أقصى من حدة الأزمة لإسباب تاريخية، ونتيجة عدم اليقين بقدرة القوى الدولية المفترضة على الإنقاذ مما يحيق بالأنظمة السياسية، أضف إلى ان بنيتها السياسية ومركبات بناءها الفوقي جعلها اسيرة إرتباطاتها التاريخية، وهو ما وضعها (الأنظمة) اسيرة الركون للولايات المتحدة وإسرائيل، لتصبح هي السيف والحكم، لإنهما الطرفان الأقوى حتى اللحظة السياسية في الساحة الدولية.
هذا الواقع التراجيدي المأساوي العربي يحتم على القوى صاحبة المصلحة في الإصلاح والتغيير نفض الغبار والوهن عن الذات، والخروج من شرنقة التعثر، والتخلي عن النوم على وسائد التحالفات او الولاءات البائسة، التي رهنت نفسها لمشيئتها.
اذا الإمساك بطرف الخيط، وتحديد الأساسي من الثانوي في الصراعات الدائرة، هو الخطوة الأولى في إتجاه التشخيص الدقيق للأزمات، والشروع التدريجي بإحداث التحول الإيجابي المطلوب قبل فوات الآوان، هذا إن إستيقظ من يفترض ان يستيقظوا.