طالما أن قطر في عين العاصفة الآن، فإن ثمة ما يستحق التذكير بشأن علاقة كاتب هذه السطور بالمسألة القطرية.
في تعبير «المسألة القطرية»، هنا، على وزن «المسألة الشرقية»، والمسألة اليهودية»، والمسألة الكردية»، مثلاً، محاولة لتوسيع الحقل الدلالي بما يتجاوز السياسة، بالمعنى المباشر للكلمة، أو حادثة بعينها، ويستدعي معطيات تاريخية، وثقافية، واجتماعية، تبلورت في، ونجمت عن، عملية تاريخية معقّدة.
قبل تسويغ هذا الكلام، فلنقل إن الاهتمام الشخصي بما سيتجلى في وقت لاحق باعتباره «مسألة»، بدأ بعد هجمات الحادي عشر من أيلول، عندما فاضت «الجزيرة» القطرية، واستفاضت، في بث وصايا منفذي الهجمات بالصوت والصورة، وأفردت لبن لادن مساحة واسعة، عبر أشرطته المرئية والمسموعة، وكذلك نوعية الضيوف الذين استدعتهم للتعليق عليها.
كانت تلك دعاية مجانية للقاعدة، واتضح استناداً إلى مصادر لا تحصى، وآخرها على سبيل المثال لا الحصر كتاب عميل مكتب التحقيقات الفيدرالي السابق، علي صوفان: «تشريح الإرهاب: من مقتل بن لادن إلى صعود الدولة الإسلامية» الصادر بالإنكليزية في مطلع الشهر الماضي، أن بن لادن كان يقترح على الجزيرة أسماء المعلّقين الواجب استضافتهم للتعليق على أشرطته المرئية والمصوّرة، وأخبار القاعدة عموماً.
«الجزيرة» اشتغلت كمنصة إعلامية لبن لادن، والقاعدة. بن لادن، والقاعدة، ضد المسيحيين، والشيعة، والنساء، واليهود، والدولة الحديثة، والقومية، والوطنية، والمواطنة، والانتخابات، والدستور، والديمقراطية، وتداول السلطة، والحق في التفكير والتعبير، والجسد، والفردية، وأسلوب الحياة.
مشروع بن لادن والقاعدة تدمير العدو البعيد (يعني أميركا، والغرب) ثم التفرّغ لتدمير العدو القريب، أي كل الأنظمة القائمة في عالم العرب والمسلمين، ثم إنشاء دولة الخلافة. هذا على السطح، وفي العمق: المشروع يعني تدمير الأزمنة الحديثة. وهذا ما لا يمكن التسامح معه، ولا غض النظر عنه، طالما أن فيه من البارود السياسي، والأيديولوجي، والنفسي، ما يكفي لخراب وتخريب العالم.
هذا البارود ينفجر في كل مكان من العالم الآن. في العراق وسورية وليبيا، في لندن، وبروكسل، والمنيا، والعريش، وكابول، وإسطنبول، وفي باريس، وموسكو، وطهران. لم يبق مكان في العالم لم يشتعل فيه البارود. ولم تظهر في التاريخ أيديولوجيا، بهذا القدر من العنف، يمكنها تحويل إنسان إلى قنبلة موقوتة تنفجر خلال أيام، أو أسابيع، لقتل الناس في أربعة أركان الأرض، في الأسواق، والميادين العامة، في الحفلات والجنازات والملاعب والمقاهي، وفي كل مكان آخر غير بيوتهم.
من الحماقة التفكير أن قطر كانت الوحيدة في الترويج لبن لان، والقاعدة (وبناتها) وسعت بإرادة واعية إلى خراب وتخريب العالم.
ومن الحماقة التفكير أن بن لادن والقاعدة كانا نبتاً شيطانياً بلا صلات رحم عضوية بالوهابية والإخوان. ومن الحماقة أيضاً التفكير أن بن لان، والقاعدة كان يمكن أن يصبحا بضاعة تستحق الترويج في معزل عن آخر معارك الحرب الباردة، والصراع على السلطة والنفوذ في العالم والإقليم. ولكن من الحماقة، أكثر، تجاهل دورها الخاص.
كل هذا مفهوم ومعلوم. ولكن النجاح الباهر «للجزيرة» وقطر تمثل في زحزحة كل موضوع بن لادن، والقاعدة (وبناتها) من الهامش إلى المتن، من مجرّد أيديولوجيا هامشية إلى مُكوّن رئيس في المخيال السياسي العام، وفي الخطاب المعادي للإمبريالية.
وهذه أهم عملية تلفيق أيديولوجية في التاريخ الحديث، شارك فيها عن حسن أو سوء نيّة أشخاص يسعون لتحسين ظروف حياتهم المهنية، وساسة مغامرون، ومرضى بالكراهية، ومثقفون وقعوا في غرام صورهم الشخصية، وأصواتهم، على شاشة التلفزيون، ومناضلون أبديون ضد الإمبريالية، وقوميون محبطون، ومستثمرون في أسواق الدم والقضايا.
وإذا قيل إن «الجزيرة» شيء وقطر شيء آخر، فإن هذا لا يصمد في التحليل والتدليل، لا لأن قطر مموّل الجزيرة وحسب، ولكن لأن الدولة تعتمد المنطق نفسه في إدارة شؤون السياسة الخارجية، أيضاً. فمن الصعوبة بمكان تصديق أن دولة تحظر على مواطنيها إنشاء الأحزاب، أو عضويتها، يمكن أن تكون رائدة لمشروع ديمقراطي داخل أو خارج حدودها.
ومن الصعوبة بمكان تفسير الجمع بين إسرائيل وأميركا وحماس وإيران، في سلّة واحدة، كدليل على البراعة السياسية.
التفسير الأقرب إلى الذهن أن ذلك القدر المُدهش من الثروة، معطوفاً على انهيار غير مسبوق أصاب الحواضر التقليدية (القاهرة، ودمشق، وبغداد، وبيروت) كان الدافع الرئيس لمغامرة ملء الفراغ، وقد مارسها الأغنياء الجدد كل على طريقته، ولكن قطر ذهبت أبعد من الكل استناداً إلى تصوّرات واقعية، وأخرى وهمية: الواقعي، إلى حد ما، أن هذا ما يريده الأميركيون. والوهمي، إلى حد بعيد، أن الرصيد في البنك يُغني هذه الدولة أو تلك عمّا يمكنها توفيره من فرق مدرعّة في الميدان.
كل ما تقدّم تم التعبير عنه، على مدار 15 عاماً مضت، في هذه الزاوية من «الأيام»، بل وذهب الكاتب أحياناً إلى أبعد من هذا، أي إلى استحالة تفسير الظاهرة القطرية في معزل عن علوم النفس والاجتماع.
وإذا كان ثمة ما يمكن إضافته، اليوم، فيتمثل فرضية أن لا إمكانية لفهم معنى ومبنى الظاهرة القطرية إلا باعتبارها «مسألة» يتداخل فيها تاريخ النفط بالحرب الباردة العربية ـ العربية، والصراع على السلطة والنفوذ في العالم العربي، وهذا كله معطوف على انهيار النظام الإقليمي، بعد انهيار الحواضر التقليدية. ومع هذا وذاك: العولمة، والثورة التكنولوجية، وأزمة الإمبراطورية الأميركية.
وبهذا المعنى في «المسألة القطرية» ما يتجاوز الدولة نفسها، ويستدعي التفكير في أنساق ثقافية واجتماعية وسياسية نشأت على خلفية تحوّلات إقليمية ودولية في حالة سيولة كاملة. والأهم، أن تحليل «المسألة» يُحوّلها إلى وسيلة إيضاح، ويُغني السجال بشأن المرحلة الأكثر سواداً ودموية في تاريخ العرب.