يستكمل اليمين الإسرائيلي المتطرف إحكام سيطرته على المجتمع بهدف تحويله إلى مجتمع مؤدلج منضبط لا يخرج عن نطلق الفكر اليميني الفاشي، وهذه المرة تطال التغييرات المقترحة قطاع الأكاديميا. فقد قرر وزير التعليم نفتالي بينت الذي يرأس حزب « البيت اليهودي» إصدار وثيقة سلوك لتكبيل العمل الأكاديمي وقد طلب من البروفيسور أسا كشير إعداد هذه الوثيقة التي أسماها الأخير «كود أخلاقي للسلوك اللائق بالمجالات المتداخلة للنشاط الأكاديمي والنشاط السياسي». وتهدف الوثيقة حسب أوساط إسرائيلية عديدة إلى تكميم أفواه المحاضرين والباحثين في الجامعات الإسرائيلية ومنعهم من الإدلاء بأي موقف أو تحليل للأوضاع. واليمين الإسرائيلي يدعي أن بعض الأقسام في الجامعات وخاصة أقسام العلوم الإجتماعية والإنسانية يسيطر عليها اليسار ويحتكرها ولهذا السبب يريد قمع حريتهم واتاحة الفرصة لليمين للتأثير على قطاع الأكاديميا. وحسب هذه الوثيقة يصبح على كل محاضر أن يفسر كل رأي يتحدث به ويبرره بأنه ليس موقفاً سياسياً وإنما أكاديمي محض .
الوثيقة المذكورة تعرضت لهجوم شديد من قبل القطاع الأكاديمي وانتقدها رؤساء الجامعات في إسرائيل واعتبروا انها تهدف إلى الحد من الحرية الأكاديمية. ورفضها كثيرون وأعلنوا أنهم لن يلتزموا بها مهما حصل وحتى لو أقرتها وزارة التعليم وحاولت تطبيقها. وعملياً هي تضاف إلى سلسلة التغييرات التي تشهدها مؤسسات دولة إسرائيل المستهدفة من قبل اليمين الذي يعتقد أنه لن يسيطر على الدولة بشكل حقيقي إلا إذا سيطر عليها وطوعها ، ومنها منظمات المجتمع المدني، والإعلام والمحكمة العليا وجهاز مراقب الدولة، والمؤسسات الثقافية والفنية، والمؤسسات التعليمية وطباعة الكتب. أي كل ما له تأثير على الرأي العام.
وقد بدأ التغيير فعلاً بتعديل إجراءات تعيين قضاة محكمة العدل العليا ونجح اليمين في إدخال عدد من القضاة اليمينيين إلى تركيبة المحكمة العليا. وتم تعديل قانون المنظمات الأهلية واصبحت الحكومة تتدخل في حصولها على التمويل وفي نشاطاتها بمعنى محاولة تكييف عملها بما ينسجم مع خط الحكومة، ومن يعارض أو يتخذ موقفاً مناقضاً يتعرض للملاحقة والتضييق ومن ثم منع النشاط أو الإغلاق. ويجري تشريع قوانين عنصرية متطرفة تقيد الحريات وتقلص مساحة الديمقراطية الداخلية بالإضافة إلى سلسلة قوانين عنصرية تستهدف المواطنين الفلسطينيين مثل قانون القومية الذي تم تمريره في الحكومة تمهيداً لإقراره نهائياً في الكنيست.
كما تم استهداف الإعلام بما فيه الإعلام الحكومي وألغيت سلطة البث الرسمية وجرى استبدالها بهيئة البث الإسرائيلي والسبب المعلن هو التمويل والتطوير والنجاعة، ولكن السبب الحقيقي يكمن في الرغبة بالتحكم في هذه المؤسسة وتطويعها لسياسة اليمين بمعني زيادة تدخل الحكومة وسيطرتها على العاملين في الهيئة سواء من حيث التعيين أو الفصل والاستبعاد.
التحولات العميقة التي تجري في إسرائيل هي نتاج لازدياد قوة اليمين الإستيطاني الذي لا يهتم كثيراً بالقيم التي حاولت الترويج لها الصهيونية الأولى، صهيونية الـ»مباى» و»العمل» والتي كانت تريد خلق وهم انتماء إسرائيل إلى العالم الغربي الديمقراطي، في إطار الجمع بين الإحتلال والديمقراطية الداخلية. اليمين العنصري المتحول في إسرائيل يهتم أكثر بالسيطرة وتحويل المؤسسة والمجتمع على قاعدة فكرية وأيديولوجية لا تقبل الآخر ولا تسمح بتعددية الآراء والمواقف خصوصاً فيما يتعلق بالموضوع السياسي، فمن ليس مع الموقف والفكر اليميني هو عدو يجب التصدي له فإما أن يصمت ويبتعد وإما أن يُحارب.
تخيلوا إذا كان هذا اليمين لا يقبل آراءً مخالفة داخل المؤسسة والمجتمع الإسرائيليين فكيف هو موقفه من الشعب الفلسطيني وحقوقه. فمن البديهي أنه لا يوجد مجال للتفاهم والتوصل إلى اتفاق باي شكل مع الإئتلاف القائم حالياً في إسرائيل، والتفاؤل بامكانية أن يجلب الرئيس الأميركي دونالد ترامب معه فرصة حقيقية للتسوية السياسية هي غير واقعية بغض النظر عن مدى جدية ترامب ورغبته الحقيقية في التوصل إلى حل دائم للصراع. فالوضع السياسي في إسرائيل غير مهيأ بتاتاً لقبول فكرة السلام على أساس إقامة دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة منذ عام 1967 إلى جانب دولة إسرائيل. وما يهم اليمين الحاكم في هذه المرحلة هو زيادة عدد المستوطنين إلى المليون في الضفة الغربية والقدس المحتلة. وهذا الهدف الذي تعمل الحكومة باستماتة من أجل انجازه ينسف فكرة الحل ومشروع السلام الذي يريده العالم ويقبله الشعب الفلسطيني.
صحيح أننا لن نخسر من أي جهد تقوم به الأطراف الدولية لإحياء العملية السياسية ، ولكن يجب أن نكون واقعيين في توقع نتائج هذه الجهود. فمن لا يقبل اليهودي المختلف لا يقبل الفلسطيني سواء الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية أو الذي يخضع للاحتلال فكلاهما يُصنف عدواً مع الفارق في الدرجة والتعامل القانوني.
إسرائيل متجهة إلى حقبة مظلمة لا تقتصر على استمرار الإحتلال لأكثر من خمسين عاماً، بل على تآكل كل القيم بما فيه تلك المقتصرة على التعامل بين المواطنين اليهود أنفسهم ، ويضاف اليوم تصنيف جديد لمن هو اليهودي. في السابق كان هذا الموضوع خلافياً يتعلق بالأم والتربية اليهودية أما الآن فهو يتعلق بالموقف السياسي والأيديولوجي، وفي أحسن الاحوال إذا تم القبول باليهودي المختلف سيكون خائناً ويعمل لصالح الأعداء الغرباء ( الغوييم). لهذا فالسلام مع الفلسطينيين أصبح حاجة ملحة لإسرائيل ليس فقط لضمان أمنها ومصالحها في هذه المنطقة، بل كذلك لإنقاذها من فاشية وعنصرية داخلية ستساهم في تقويضها مع الزمن.