رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين
أدخلوا معي دماغ الأسير فادي زهير علي أبو عطية، من سكان مخيم الامعري، هي رحلة داخلية تستغرق 12 عاما يقضيها بالسجن و 41 يوما خاضها مضربا عن الطعام من اجل الحرية والكرامة ، وسنجد أن عند فادي ما يقوله في مفترق مرحلتين وحالتين، وسنجد أنه كان يختزن الزلازل والأعاصير ومضى في زمن سحيق صعب في السجون ، وعاد أخيرا من سجن عسقلان الى سجن عوفر يحمل اتفاقا حول مطالب المضربين، وانهالت حينها زلازله وأعاصيره ودمه الرمادي وصرخات الجنون.
أدخلوا معي دماغ فادي أبو عطية، عيناه حمراوان حادتان، جسده النحيف ويداه المرتعشتان، شفتان ناشفتان وارتجاج في الأصابع العشرة وحركات سريعة بين اليمين واليسار، كان يجري في الساحة، ينادي على ظافرالريماوي الذي سقط في غيبوبة خلال الاضراب، وكان يجري نحو موسى صوفان الذي انفجرت رئتاه، ويصرخ في الاطباء لإنقاذ قلب عثمان ابو خرج وابراهيم ابو مصطفى وسعيد مسلم، احضروا الحمالات، احضروا الاسعاف، يجري وينادي.
أدخلوا معي دماغ فادي أبو عطية، ها هو يحاول انعاش الاسير خليل ابو عرام، توقف قلبه لعدة دقائق ، يمسح الدماء التي تقيأ بها كريم يونس ومحمد زواهرة، وشادي شلالدة وأحمد سعدات، دماء على وجه فادي، دماء في ساحات السجون، دماء في البوسطة المغلقة، دماء في دماغه المشتعل.
أدخلوا معي دماغ فادي أبو عطية، خلال 41 يوما نقلوه اكثر من 20 مرة مع سائر الاسرى، عراة مقيدين مهانين محشورين، أرادوا انهاكهم، يسقطون على الارض، يدوخون ، ترتطم رؤوسهم وتسيل الدماء، يزجون في زنازين اسوأ من القبور ، ضيقة بلا هواء وشمس وحياة، ودماغ ابو عطية لا يلين، يزداد صلابة وقوة، لن نتوقف عن اضرابنا حتى لو خرجنا جثثا، لا زال دماغي معي واليقين.
أدخلوا معي دماغ فادي أبو عطية، ما أكبر دماغه، دوراته الدموية لا تتوقف عن حركاتها السريعة، خلايا اعصابه تعطي الرسائل والاشارات لكل من هو في المعركة ، كان يشم رائحة النصر القريبة، ويشم رائحة الصمود الطازجة ويفكر، كل ما فيه يفكر وخلايا الدماغ تتصدى لسياسة القمع الوحشي والمساومة على العلاج، تتصدى للتفتيشات الاستفزازية ليل نهار، جذع دماغه كان فأسا يدق الجدران ويحفز قنواته العصبية لتصل الى كل الخلايا العصبية للأسرى، لسنا أجسادا ، نحن اعضاء حسيّة باللمس وبدرجات حرارة اجسادنا وبجوعنا يتنشط وعينا ونظل مستيقظين.
ادخلوا معي دماغ فادي ابو عطية، كبت انفعالاته وتوتراته وهو يشاهد الاعتداءات على الأسرى المضربين، ويرى دولة الاحتلال بكل جيشها وهراواتها وقنابلها تريد تدمير الاضراب والمضربين، يزداد الاحساس بالعطش وتزيد كمية الماء والملح المفقودة، فيبدأ دماغه بتنظيم عملية الجوع وانتاج تلك المواد الكيماوية واستخدامها ناقلات عصبية ترفع الجسد الى الاعلى وتتصدى للهجمة الوحشية.
أدخلوا معي دماغ فادي أبو عطية، تسمعون همسا يقول: أن هناك أطفالا رائعين خاضوا الاضراب بجنون وبسالة، نستطيع ان ننتصر، لا شيء مستحيل ، كان المحتلون خائفين وكنا نفتح بجوعنا سجنا سجنا حتى وصلنا صحراء النقب، كانو يتراجعون وينكسرون، عندما يذهب الخوف يأتي الانتصار، وحصاد الدم سيأتي فيما بعد ، قالها وارتفعت درجة حرارته وسخونة وجهه.
أدخلوا معي دماغ فادي أبو عطية، ترونه يحلم، وأن لم يحلم اكله السجانون والليل، ظل صاحيا، الجوع اجنحة، الصمود اجنحة، وكل اسير يحسب السماء ذراعا تطوق خاصرته، وكل اسير يعانق الحرية وما وراءها، وكل اسير تنام فلسطين بين ذراعيه آمنه.
أدخلوا معي دماغ فادي أبو عطية، ها قد ظهرت الحدائق ومقابر الشهداء وابواب البحر المتوسط، لازال يسير وتحت قدميه ترن الارصفة والاسئلة وترن المدينة، وكالراعي الصالح يطلق ذاكرته في الصباح ثم يغلقها مع اول المساء ، اولاد مخيم الامعري اكبر من الدماغ، لا ينامون.
أدخلوا معي دماغ فادي أبو عطية، عاد الى سجن عوفر جريحا مريضا مغبرا، جلس صامتا لا يتحدث، يتنقل بهدوء من غرفة الى أخرى، يقول: لا استطيع النوم هناك ضجيج في رأسي، اشعر ان احدا أخذ مني دماغي، ويسأل هل نحن انتصرنا ام انكسرنا ؟ ينظر الى جسده، يضع يديه على رأسه ، يقوم من النوم ليلا يرتدي ملابسه وكانه سيخرج من السجن قائلا: ادارة السجون ستنقلني، إدارة السجون سوف تختطفني.
أدخلوا معي دماغ فادي أبو عطية، ها هو يجلس في ساعات الصباح الباكر، يطلب من الاسرى ان لا يتركوه وحده بل البقاء معه والتحدث وعدم تركه دون كلام، يريد ان يتأكد ان الجميع هنا، لم يمت أحد، وان الجميع خرج من حالة الفزع والرعب التي مرّ بها الاسرى المضربين، فادي يفيض بالرعشات في كل عضو من جسده، وفادي يشعر ان هناك من سرق دماغه وابقاه في تلك الزنازين.
أدخلوا معي دماغ فادي أبو عطية، اعيدوه اليه كاملا سليما، عالجوا ما اصابه من اضرار وجروح، ساعدوه في استعادة المعلومات والاحداث والاسماء، يريد ان يتذكر كل شيء، في داخله ينابيع لا يقدر ان يبوح بمائها، في داخله سجان لازال يقبض على روحه وقلبه، ساعدوه للوصول الى دماغه الحرّ، عقله صار خارجا هنا في طبريا والقدس ورام الله.
أدخلوا معي دماغ فادي أبو عطية، كان الحصار وكانت الأمواج عالية، القمع والضغط تحول الى نيران تنعكس على سطح دماغه وراحت تتحول داخل الاعصاب اشباحا وكوابيس وبراكين مهتاجة، اصواتها تشرخ ما تبقى من نهوض الروح النقية.
أدخلوا معي دماغ فادي ابو عطية، مملوء بالرطوبة ، يرى نفسه قذف من ارتفاع شاهق، وعندما فتح مظلة ارادته وجوعه، ظل يتأرجح في العراء السماوي، لم يأت أحد، تأخروا كثيرا، قطرات دم تهبط على وجوه العابرين.
دماغ أبو عطية يعطي اشارات كهربائية تصعقنا وتقول:
الملح يعانق التراب..
البحر الميت لا يحتضر..
أنا في شهقة..
أنا في زفرة..
نتخطى الخراب..
نقرأ آياته..
دماغي كتاب.