شهد العام 2000 زيارة شارون الاستفزازية للمسجد الأقصى، التي شكلت شرارة إشعال الانتفاضة الثانية أو انتفاضة الأقصى، مع كل ما رافق ذلك من شعور فلسطيني بالإحباط جراء تنصل الحكومة الاسرائيلية من الالتزام بالفترة الانتقالية للحل النهائي وفقاً لاتفاق أوسلو وعدم تنفيذها لأي شيء مما اتفق عليه، ناهيك عن تبعات فشل المفاوضات في كامب ديفيد، فكان ما كان وجرى اللي جرى، وعاللي جرى من مراسيلك عاللي جرى...ألخ، ولا زلنا نشهد ونعاني من النتائج المدمرة التي وصلنا لها في أعقاب ذلك، حيث اغتيل الرئيس ياسر عرفات وطويت أعرض مرحلة من مراحل النضال الوطني التحرري الفلسطيني، وبدأت مرحلة جديدة وعهد جديد ما زلنا نتسربل في رحابه المختلَّة على أرضٍ محتلَّة حتى يومنا هذا. وبرغم كل الجرائم والانتهاكات التي حصلت بحق شعبنا، إلاَّ أن أحداً لم يحاسب على أي فعل شائن وإجرامي مما حصل، وذهبت دماء الأبرياء أدراج الرياح بغير ذنب، سوى غياب العدالة.
واليوم وبعد أن استنفد كل ما في جعبته من أسلحة التوتير والتصعيد والاستفزاز للفلسطينيين، وبعد أن فقد الأمل في استفزاز الفلسطينيين الذين عودوه أن يؤمنوا له في كل مرة من خلال ردود أفعالهم القائمة على منطق إنكُش تِوَلَّع، كل الأسباب والمبررات التي يستظل وسياساته المتطرفة بها، يعلن نتنياهو عزمه اقتحام الحرم الابراهيمي أوائل الشهر المقبل، بذات الأهداف والاستفزاز المتعمد والمرسوم على ما يبدو، لأن في ذلك المخرج المجزي والمناسب لنتنياهو المزنوق وجوقته دولياً، ولكي يعيدوا السيرة الأولى لانتفاضة الأقصى، وما تأتى عنها من قتل ودمار وتراجع سياسي واقتصادي. وبالتالي سنجد أنفسنا أمام تكرار جديد ربما لذات المأساة وتراجيديا الحرب والسياسية.
هذا من جهة، ومن جانب آخر ثمة مأساة أخرى ما زالت تحيط وترافقنا، وهي أن المجتمع الدولي ما زال عاجزاً أو مقصراً في اتخاذ موقف أو إجراء صارم وواضح لردع نتنياهو وكبح جماح سياساته، مكتفياً في أحسن الحالات بالإدانة الخجولة والمصحوبة بلازمة اللوم على الفلسطينيين، لتبهيتها والتخفيف من حدتها ووقعها على أسماع نتنياهو وقادة التطرف المنفلتين في إسرائيل. وبالتالي ما ظل ميزان العدل مكسوراً وحظ العدالة مايل.
من هنا نشاهد حجم الفجوة ما بين المواقف العادلة، وواقع المواقف الدولية المتخذة في أمرنا ظلما وعدوانا. فما أن تقدمت بعض عائلات ضحايا التفجيرات التي وقعت في إسرائيل بين العامين 2000و2004 ، مطالة بتغريم السلطة الفلسطينية بثلاثة مليارت دولار كتعويض لأسر الضحايا، حتى سارعت المحاكم الأميركية لبحث القضايا. مع أن منفذي العمليات هم مجموعة أفراد يتبعون لفصيل مسلح لا ينضوي تحت جناح السلطة الفلسطينية الرسمية ولا سلطان للسلطة الفلسطينية عليهم أصلاً، لا بل هم يناصبون العداء على الدوام للسلطة والاحتلال معاً.
بينما لا زال العالم يقف مكتوفاً، أمام مجرد شروعنا بالانضمام لمحكمة الجنايات وتوجهنا لرفع شكاوى على جرائم وانتهاكات دولة احتلالية بحق شعب تحت الاحتلال، لا بل ويمارسون الضغوط الهائلة، وحجب الأموال وسياسة تهبيط الحيطان على شعبنا، لمنعه من مجرد الشكوى على جرائم مثبتة وبائنة بينونة كبرى لا فصال ولا جدال فيها. فكيف يمكن أن تعود إسرائيل عن انتهاكاتها وجرائمها الاحتلالية اليومية، والمجموعات الدولية تمعن في دعمها ومكافأتها من خلال توقيع عشرات الاتفاقيات التجارية والاقتصادية وغيرها معها. ومع كل هذا، ما زلنا نحن الأكثر تمسكاً بالسلام الحقيقي العادل والمتوازن، ونصر على الثبات في مربعاته، تاركين الاحتلال وحكوماته يرابط في مربعات الشرور وإلى زوال طال الزمن أم قصر، لأن السلام بيِّن والإرهاب بيِّن، وحركة التاريخ دائماً ستظل إلى الأمام.
ليس هذا وحسب، لا بل ونشهد اليوم بذور الإرهاب والداعشية المجرمة، تطل برأسها المأفون لتنمو وتتزايد في إسرائيل، وذلك حين يخرج ليبرمان العنصري على العالم، بالدعوة لسن قانون يقضي بالسماح بإعدام الأسرى الفلسطينيين، مع أنهم في الحقيقة أقرب إلى المخطوفين منهم إلى الأسرى، ليترافق ذلك، مع تراجع نسبة المؤيدين من داخل المجتمع الاسرائيلي للحق الفلسطيني في إقامة دولة مستقلة الى جانب إسرائيل في إطار اتفاق سلام، والأسوأ من ذلك، أن إسرائيل قد نجحت وكما في كل مرة، في ممارسة الضغوط على بريطانيا مثلاً، وجعلتها تعدل قوانينها بما يحول دون ملاحقة مرتكبي جرائم الحرب الاسرائيليين قانونياً. ناهيك عما سبق وأن أقدمت عليه، كل من بلجيكا في العام 2003 وإسبانيا في العام 2009 ،حين قامتا بتعديل قوانينهما، على نحو يمنع مثول أي من قادة إسرائيل أمام محاكم جرائم الحرب. فكيف يمكن أن تتحقق مصداقية هذه الدول في محاربتها للإرهاب، وانتصارها لقضايا الشعوب في العدل والسلام، في ظل هكذا تفصيل وتكييف للقانون على مقاسات حذاء المحتل المعتدي، ونصرة المجرم وتهريبه من ملاحقة الضحية له. وبهذا يتجلى قول الشاعر:
قتل امريءٍ في غابةٍ جريمةٌ لا تغتفَرْ// وقتلُ شعبٍ آمنٍ مسألةٌ فيها نظَرْ