خلال الأسابيع الأخيرة كثر الحديث عن السلفية في قطاع غزة، وحيث إن الموضوع توسع النقاش فيه داخل حلقات المساجد وفي مجالس الإسلاميين ومنتديات النخب الفكرية، وأيضاً على صفحات الجرائد ومواقع التواصل الاجتماعي، وقد تجاوز الحديث التعبير عن حالة كنا نرى فيها أنها تمثل ذراعاً مؤثراً في أسلوب الدعوة وهداية الناس وخاصة الشباب منهم، فإذا بنا اليوم نتكلم عن بعض المجموعاتوالعناصر في الحركة السلفية التي أصبحت تشكل تهديداً للاستقرار والأمن العام، حيث وقعتعدة تفجيرات في أكثر من مكان في قطاع غزة، وأخرى كان يجري التحضير لها، الأمر الذي استدعى تحرك الأجهزة الأمنية لتوسيع دائرة الرصد والمراقبة، واعتقال البعض منهم على خلفيات جنائية، وهي تشي بأن هناك جهات مشبوهة تقف خلف ما جري، وما كان يُنتظر وقوعه من أعمال هي للفوضى والفلتان أقرب منها لأعمال الدعوة والإيمان.
وحيث إننا نعيش – للأسف - حالة من التشرذم والانقسام السياسي، وهناك داخل القطاع اصطفاف فصائلي مقيت، وغياب ملحوظلانسجام الموقف ووحدة الفهم تجاه قضايانا الوطنية والإسلامية، فإن مثل هذه المناخات – للأسف - تسمح بظهور حالات من الخلل والتناقض الفكري، والمناكفات السياسية والتجاوزات الأمنية، والتي قد يستغلها البعض لإرباك الساحة وإشغالها بالعداوات وكافة أشكال الإشاعة والتحريض.
كما أن الذي يجري في المنطقة العربية من حالات الصراع الدامي على خلفيات سياسية وطائفية، يفتح أعين أجهزة الأمن الإسرائيلية ويشجعها لتجنيد البعض من عناصر هذه التيارات السلفية أو صناعة أشباهٍ لها، لإيجاد ذرائع تبرر من خلالها إسرائيل أعمالها العدوانية تجاه المقاومة في قطاع غزة، وإبقاء القطاع في حالة من الفوضى والاشتباك الدائم وتغييب الأمن والاستقرار وفرص الازدهار.
أنا هنا أسجل إعجابي بالكثير من الجهود التي تقوم بها الحركة السلفية في هداية الشباب، والأخذ بأيديهم إلى طريق الهداية والرشاد، كما أثني على رعايتهم للعديد من الجمعيات الخيرية، وسعيهم الدؤوب لجلب المساعدات وتقديمها للأسر الفقيرة، وأيضاً اهتمام البعض منهم بتشكيل مجموعات عسكرية لمقاتلة الاحتلال.
للأسف–اليوم - تبدو الحركة السلفية بعناوينها المختلفة في دائرة الاتهام والتشكيك أولاً، والاستهداف والملاحقة ثانياً، فما هي حقيقة وأبعاد كل ما يجري؟ وهل الذي نراه أو نسمعه في وسائل الإعلام حول مجموعات مرتبطة بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أو القاعدة له أرضية من المصداقية والواقع؟ وهل التيارات السلفية في قطاع غزة هي في رؤيتها للعمل الدعوي أو الجهادي على قلب رجل واحد، وتتبع منهجاً فكرياً وتربوياً لا يقبل التعدد والخلاف؟ وهل وهل، أسئلة واستفهامات تحتاج منَّ إجابات لها.
الحركة السلفية: محطات تاريخية
في معظم الدول العربية والإسلامية التي خضعت للاستعمار كان الدين – دائماً -هو المحرك للعمل المقاوم، وهو روح الثورة والتغيير، وفي بلادنا فلسطين الواقعة تحت الاحتلال منذ أكثر من ستة عقود لم تخرج عن هذه القاعدة، حيث إن المقاومة التي ترفع رايات جهادية هي اليوم أكثر بروزاً وفعالية من تيارات وطنية سبقت في هذا المجال، وإن كان لكل تيار إسهاماته ورصيده، الذي لا يمكننا أن نغمط حقه أو نتجاهل تضحياته عبر مسيرتنا النضالية.
اليوم تتصدر حركة حماس والجهاد الإسلامي راية التحرير والعودة، ومعسكراتها تنتشر في معظم أرجاء قطاع غزة من الشمال إلىالجنوب، ولا أحد ينكر حجم الحشد والتعبئة والاستعداد التي تقوم بها كلٌّ منهما، وهناك إلى جانبهم عددٌ آخر من فصائل العمل الوطني وبعض المجموعات الإسلامية الأخرى، ولكنهما؛ كتائب القسام وسرايا القدس، هما من خلال جهود الميدان وجبهات القتال يمثلون "الكوم الكبير"، وبالتاليفلا حاجة للمزايدة - إسلامياً - عليهما.
لذا، فإن اتهامات بعض عناصر السلفية لحركة حماس أو الجهاد الإسلامي بما ينزع عنهما عباءة الدين أو يشكك في صدق عقيدة الولاء والبراء لديهما، هم بحاجة لتأكيد مصداقية ما يزعمون، وتقديم إثبات لهويتهم الوطنية.
وجادل ولكن بالتي هي أحسن..
في كل التنظيمات العلمانية والدينية هناك - دائماً - أفراد يجتهدون ويتخذون مواقف حديِّة، بعيدة عن أدبيات وسلوكيات التنظيم، وأن الخطأ الذي يقع فيه البعض هو تحميل الكل حماقة أو جريرة فعل هذا الفرد أو أولئك الأفراد، وكأنها المدونة العامة لسلوكيات الحركة، وتقع ضمن خطوطها الدعوية والأخلاقية العريضة.
وهذا - بصراحة - يتنافى مع القواعد العامة في الحكم على الأشياء، حيث خطأ التعميم من ناحية، وتجاوز لقواعد العدل (ولا تزر وازرة وزر أخرى) من ناحية أخرى.
فمثلاً؛ في الفترة الأخيرة، ارتكبت بعض العناصر المحسوبة على التيار السلفي أفعالاً شكلت تهديداً للأمن العام، بل ويرقى بعضها – للأسف - إلى مستوى الجريمة.. السؤال الذي يطرح نفسه، هل هذا سلوك شخصي نتاج للتحريض أو محاكاة لما يجري في مناطق أخرى كسوريا والعراق، أم هو توجه عام لإثارة القلاقل وخلق حالة من البلبلة والفلتان الأمني؟!
طبعاً التحقيقات تتطلب استدعاء البعض ممن تحوم حولهم الشبهات،بهدف كشف الجريمة، ومعرفة أبعاد المخطط وأخطاره.
إن مثل هذا الاستدعاء يُفترض ألا يثير الرأي العام، ولا حتى إخواننا داخل التيار السلفي؛ لأن الأدلة والشواهد هي من ستبنى عليها أحكام القضاء وإجراءاته العقابية.
ونحن كعناصر إسلامية أو تيار مؤدلج لنا خبراتنا في فهم ومعرفة مثل هذه السلوكيات، والتي هي في أغلبها انعكاس لقناعات شخصية أو بتحريك من جهات خارجية مشبوهة، وتعتمد درجة الشك واليقينبمثل هؤلاء وأولئك على مستوى الوعي المعرفي والأمني بهم،وبالسيرة الذاتية والحركية لكل منهم.
إي أن المسألة هي حالات فردية تتدثر بالثوب الواسع للسلفية وخطابها الدعوي والأخلاقي،والذي قد لا نختلف على مدونة حُسن الأدب والسلوك فيه.
من هنا، فإني أتوجه بالنصيحة للأجهزة الأمنية والقضائية أن تتعامل مع هذه الحالات بشكل فردي وليس كظاهرة، وأن تكون الأحكام على خلفيات ما في الفعل من عناصر الجريمة التي تستوجب العقاب.
إن هناك ثلاثة مسارات يجب أن يتم اتباعها لمعالجة هذه الحالات كي نحافظ على علاقاتنا الطيبة مع التيارات السلفية في قطاع غزة، وهي كالتالي:
1) توسيع قنوات الحوار مع هؤلاء الشباب الطيب منهم والخبيث، بهدف قطع الطريق أمام انسياقهم خلف المزيد من الغلو والتطرف، وذلك من خلال جلسات مكاشفة وحوار موسعة بمشاركة بعض رجالات السلفية وعلمائها الأفاضل، حتى يتبين لهؤلاء الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، فمن ثاب إلى رشده وأناب، مددنا له يد العون، وأعنَّاه على الطاعات والطيب من القول، ومن كان غير ذلك يعاقب حسب جريمته، وما ارتكب من أخطاء حسب مجريات القانون.
2) جلسات مراجعة مفتوحة عبر وسائل الإعلام، يتم فيها من خلال الحوار التعرف على دواعي الفعل وخلفيات الخطابالعنفي، وتتضح بواعث هؤلاء من خلف ما ارتكبوه من جرائم.. إن وعي الجمهور بخلفيات الجريمة واتضاح طبيعة الجاني سوف تشكل رادعاً لمثل هؤلاء، وسوف تكون عبرةً لغيرهم من الشباب، فلا يضل ولا يشقى.
3) التعامل الإنساني والقول اللين، وذلك بالابتعاد عن أسلوب التعذيب بالعصا الغليظة والعقاب المهين؛ لأن ذلك يورث العداوة والبغضاء ويعاظمالكراهية والرغبة في الانتقام..حيث إن اعتماد أسلوب العلاج بالكلمة الطيبة والخلق الحسن القويم، وإلحاق البعض منهم بمعسكرات التدريب الجهادي واحتكاكهم بالمقاومين، هي أجدى وأنجع.. علاجٌ بطيء في تأثيراته وأفعاله، ولكن نتائجه مضمونة العواقب وبلا ثارات.
نصيحتي للجميع: تبينوا
في سهرة جمعتنا بالشيخ عمر الهمص، رئيس جمعية ابن باز الخيرية بمدينة رفح، تحدثنا مطولاً حول واقعنا السياسي المأزوم، وحالة التوتر الأمني والخلاف القائم مع بعض العناصر السلفية داخل قطاع غزة، وكان الرجل بدماثة أخلاقه وأدبه الجم ووعيه بما يجري وإدراكه لحجم المخاطر التي تتهددنا جميعاً، واضحاً في خطابه من حيث إظهار احترامه لحركة حماس، وتقديره الكبير للمقاومة الفلسطينية، والرغبة في إيجاد آليات عمل تحفظ توازن العلاقة مع كل التيارات السلفية والدينية، باعتبارها رصيداً للمشروع الوطني، وأحد سهامه الضاربةلحماية الوطن والوقوف في وجه الاحتلال والعدوان، وتحقيق تطلعات شعبنا في التحرير والعودة.
كانت الروح التي تحدث بها الشيخ عمر الهمص تحمل مفرداتها من الكلم الطيب ما يبعث على الاطمئنان، وتعكس رغبات أخوية ومواقف إيجابية فيها مننبل وطهارة الأهداف ما يتوخى الجميع تحقيقها، وقد أشار خلال جلستنا الطويلة معه إلى العديد من المواقف والتحركات التي تعكس صدقية العلاقة ودلائل الشهادة على ما تكنه جمعية ابن باز من احترام وتقدير لإخوانهم في حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
لقد تحدثنا في سهرتنا تلك حول ما ينتاب ساحتنا وشارعنا الفلسطيني من قلق ومخاوف خشية الانفلات الأمني، والدخول في مواجهات تأخذنا بعيداً عن معركتنا الحقيقية مع الاحتلال الإسرائيلي، خاصة أن هناك حالة من التشدد تظهر على بعض عناصر السلفية الجهادية، وأن هناك البعض داخل هذا التيار يعتقد بأن الله لم يهد أحداً غيرهم، ويريد أن يجرنا إلى معارك جانبية، ويتصرف وكأن هناك غياباً للأمن وسلطة القانون، الأمر الذي يؤدي لوقوع تجاوزات لا يمكن السكوت عنها مما يتسبب في وقوع المحظور.
لا شك أن حركة حماس وعناصرها في وزارة الداخلية تتجنب بقدر المستطاع الظهور بأنها في مواجهة مع تيارات إسلامية أخرى، وتحرص على إيجاد قنوات لفكفكة الخلاف معها قبل أن يقع ما لا يحمد عقباه، والعمل على قطع الطريق أمام كل من يحاول إشعال فتيل الفتنة بين الإسلاميين، حرصاً على طهارة البندقية وقداسة الدم الفلسطيني.
لقد وجدت انسجاماً وتوافقاً في الكثير مما دار بيننا على مستوى الرؤية والفكر، وقد أشرت في اللقاء على ضرورة مواصلة الحوار بين التيارات الإسلامية وأهمية التوافق على أجندة وطنية تتضمن خريطة العمل الدعوي والجهادي، وذلك من خلال إنشاء لجنة تنسيق إسلامية عليا، تتمثل فيها كل هذه المؤسسات الدعوية والجمعيات الخيرية والتيارات الحركية، وذلك بهدف ضبط إيقاع العمل الإسلامي، ونزع فتيل أية خلافات أو مواجهات ميدانية بين كوادره، والتفاهم مع الجميع حول مبادئ العمل ومساحة المشترك التي على الجميع الالتزام بها.
إن الانطباع السائد لدى الإخوة في جهاز الأمن الداخلي والأمن العام هو بشكل عام إيجابي تجاه معظم تيارات الحركة السلفية في قطاع غزة، وهم مدركون بأن الاحتلال الإسرائيلي قد يحرك بعض عملائه – أحياناً - للقيام بأعمال توحي بأن هناك مجموعات للقاعدة أو لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في قطاع غزة، وذلك لإيجاد ذرائع لعدوانه المستمر على القطاع، وبغرض تبرير انتهاكاته للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني بارتكابه للكثير من المجازر وجرائم الحرب .
لذلك، فإن مأسسة قنوات الحوار والتنسيق بين كل هذه العناوين الإسلامية هو – بلا شك - السبيل الأفضل لعلاقات أخوية قائمة على الثقة والاحترام، والتسليم بأهمية تقاسم الأدوار وتوزيع الجهود، للارتقاء بالعمل الدعوىذي الطبيعة الرسالية، وتعزيز إمكانيات المقاومة ورفدها بجيل رباني فريد، وتمكين الجبهة الداخلية وحمايتها من أية مظاهر صاخبة للانحراف والانفلات الأمني.
إن ما شهدناه لبعض حالات التطرف لا تخرج عما ذكره د. هشام المغاري؛ الخبير في الشئون الأمنية، حيث أشار: ليس لداعش فرصة للنجاح في غزة، حتى وإن نجحت في بعض عمليات التخريب والتحريض هنا وهناك، وهي لا تزيد عن كونها ظاهرة يحاول بعض الشباب من خلالها تقليد بيئات خارجية تختلف عن بيئتنا في غزة، قد تكون الأوضاع الصعبة في غزة، أو خلافاتهم الشخصية مع حماس، أو فهمهم الخاطئ للدين والشريعة هو ما دفعهم بعضهم للقيام بذلك.
ختاماً: ليس لنا من خيارات إلا العمل بتوافق وتفاهم مع إخواننا في الحركة السلفية، واحترام كل منَّا لقناعات وخصوصيات الطرف الآخر، والعمل وفق "قاعدة المنار الذهبية"، التي وضعها العلامة الشيخ رشيد رضا – رحمه الله - لأهل القبلة، والتي تقول: "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه"