الشهداء، أحد الملفات التي شغلتني بعد العودة للوطن. تكوين انطباعات أولية حول مكانة الشهداء في الضمير الجمعي، كيف يفي المجتمع الديْن.
في تجوالي لإعادة وصل ما قطعه إبعاد قسري عن الوطن دام سبعة وعشرين عاما. بحثت عشوائياً عن آثارهم، ما خفي وما بان للعيان، الرموز والإيحاءات، حضورهم في الكلام والخطاب والبيان، على أسماء الشوارع والميادين والصروح والنُصُب التذكارية، الجداريات والمدارس. أسجل كل شيء.
كنا، أسر الشهداء، قد أسسنا في الخارج «التجمع الوطني لأسر شهداء فلسطين»، كإطار شعبي خاص يحمل أهدافاً وبرنامجاً ذا أبعاد قيمية ومعنوية ومادية، لتعريف الأجيال القادمة بقيمة هذه التضحيات التي قدمها الشهداء لاسترجاع السيادة الوطنية، ومن أجل إنماء الوعي التاريخي لديهم، باعتباره صمّام الأمان. وفي الشق الآخر من البرنامج؛ الإمساك بقوة بالجانب الحقوقي والمطلبي، فالشهادة حق وحقوق. مع حرص شديد على عدم الخلط بين الشهداء وبين الحالات الاجتماعية.
بعد تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية أخذت الرموز التذكارية للشهداء بالتزايد، على أساس الأعراف المتبعة في جميع الهيئات الوطنية، لكنها للأسف لم تسلم من سياسة الحصص والكوتات التي جاءت في غير مكانها، وهو ما ولّد حالة من الإرباك لدى أهالي الشهداء أدى مع الوقت لأن تأخذ الجماعات حقها بيدها. ظاهرة تتسع في الانتفاضة الثانية.
كنت أحيط نفسي بجو شاعري ومثاليّات، إسقاطات وافتراضات، استبعاد جلافة الواقع وضرب عرض الحائط بالتأويلات الذاتية. قلت: إلّا الشهداء، استثناؤهم من حساب الكوتات والحصص.
مشهد جرحني في كبرياء الشهيد. رحلوا قبل أن يعرفوا أن الفئويّة ستتواطأ مع الرطوبة في نخر عظامهم، في أحد تجليات التمييز، ليس طبقياً أو على أساس الجنس أو أشكال التمييز الأخرى، تفريق فئوي على أساس الأقليات والأغلبيات. أزمة الأقليات تعبير أصيل عن أزمة الأكثريات.
انتظرت أن يأتي الحق ماشياً دون عكازات. على قاعدة أنْ ليس من فرق بين شهيد وآخر إلا بتقوى الانتماء للوطن، التضحية المقدمة، المأثرة التي مثَّلها في إضاءة الطريق.
تمسكت بخطاب الرمز الجماعي للشهداء. صرح، نُصْبٌ أو جدارية موشاة بأسماء الجميع الجميع، في قلب كل بلد..كان يصطدم الاقتراح بتعقيدات حقيقية، إعطاء شهادة شهيد على ضحايا الصراع الداخلي والفلتان الأمني. ضرورات السلم الأهلي، متطلبات استرضاء.
انتظرت أن يبادر أحد ما..أن يأتي الحق ماشياً على أقدام من تقدير وانتماء..لم يفعل أحد. لذت بصمتي وأخفضت جناحي.
لم أفقد الأمل في حماية الإرث الثقافي للشهداء، وفي العام 2011 قمت بكتابة مقالة لم أقوَ على نشرها، أعطيتها ًعنواناً يلخص الموضوع: «من يبيعني ميداناً شارعاً صرحاً أهديه إلى خالد نزال».. لم أترجم شعور قهر «معين بسيسو»، تعمقت بكلماته إيجاباً، أصبتها.
«إن قُلْتَها مُتّ وإن لم تَقُلْها مُتّ، قُلْها ومُتْ».
أخرجت «ديسك المكابرة» من رأسي، وضعت أكوام المشاعر والكبرياء على رفّ القهر، مواجهة صَلَف الواقع وتعاليه على مخيالي. إلى بلدية جنين أشدُّ الرحال. ما بين المشاعر والسياسة والمبادئ أضع مصفوفتي. المطالبة بالحق في إطار مفاهيمي.
تحدثت عن أن موت الشهيد تفانٍ وانتماء، ليس من فرق بين شهيد وشهيد إلا بالتقوى، تقوى الوطن، قلت إن الشهادة فن وعبقرية خاصة بأصحابها، ارتفاع معدلات مصداقية من يحمل جيناتها. يمارس فيها الشهيد سموّا يعلو على الرموز المصرَّح بها للِّسان، بل حتى التي يصرِّح بها الجَسَد. الفرق بين شهيد وشهيد في صناعة الفرق، وهذا الفرق، يُقاس بالأثر المتروك والتضحية المبذولة. الشهادة إبداع وموهبة، ممارسة فن الشهادة. تجاوز بديهيات غريزة حب البقاء من أجل اعتلاء القباب. إنهم النُخَب على الأرض.
صدر قرار البلدية فوراً. ذهبت إلى خطوة ثانية، فحص ميادين الشهداء. وجدت أن أسماء الشركات الراعية لعملية التشييد أكبر من اسم الشهيد. هل أقبل ما قبله الشهيد صامتاً. أذهب مع البلدية نحو أن تكون البنية الفوقية للميدان بيدي..اسم «خالد» لا يُعْتَلى من الدعاية أو الإعلان. نتفق ونتعاون.
اتخذ قرار تشييد الميدان في العام 2011 وافتتح في العام 2017. بين الأعوام الستة، تغير مكان الميدان، تغير ثلاثة رؤساء مجالس بلدية، بالانتخاب والتعيين.
وللتجربة بقية..