يوسف عراقي " يوميات طَبيب في تَل الزّعتر "

يوسف عراقي " يوميات طَبيب في تَل الزّعتر "
حجم الخط

حسن عبادي

الذاكرة الجماعية سلاح لتحقيق العدالة!

صدرت في كندا مؤخرًا الترجمة الانجليزية لكتاب "يَوميّاتُ طَبيب في تَل الزّعتر" للدكتور يوسف عراقي، الشاهد الذي رصد الجرائم ووثق مذبحة المخيم ودوّن تجربته والمآسي التي عصفت بالأهل بعد شهور من المجزرة كي لا تضيع الذاكرة، لينقل ما عاشه وعايشه وشاهده خلال عمله كطبيب في المخيم خلال فترة الحصار، وكإنسان قبل كل شيء، محاولًا نقل أحاسيسه تجاه ما عايشه على شكل يوميات توثّق حياة الناس اليوميّة داخل المخيّم ساعة الحصار بتفاصيلها وحذافيرها، بما شاهده من مشاهد حياتيّة قاسية عاشها اللاجئون في المخيم،  خاصّة أنه لم يُكتب عنها الكثير ولم تتناول وسائل الاعلام إلا القليل منها، بضبابيّة، فكان من القلائل الذين وثّقوا المأساة بتفاصيلها الدقيقة فجاء توثيقه لها مزيجًا من الشخصي والمهني، بريشة من تواجد في الميدان وأدى رسالته المهنية والانسانية بما أملاه عليه ضميره النابض. 

وصلتني نسختي الكندية بتوقيع الدكتور عراقي: "دماء الشهداء وأنينه وآلام أهله عبرت الأطلسي... وستطوف العالم مطالبة بالعدالة... وملاحقة المجرمين"، دمعت عيناي لهذا الإهداء الشخصي والخاص، فعدت إلى الطبعة الثالثة من الكتاب. صدر سنة 2016 في حيفا في السنوية الأربعين لمجزرة تل الزعتر، وجاءت لوحة الغلاف والرسومات الداخلية بتوقيع الفنّان الفلسطينيّ الراحل توفيق عبد العال، ووقع في 116 صفحة من القطع المتوسط.

صدرت الطبعة الثالثة لكتاب "يوميات طبيب في تل الزعتر" في حيفا وأشهرت بأمسية ثقافية في نادي حيفا الثقافي، وكما كتب لي د. عراقي في الإهداء على الطبعة العربية "اللقاء على أرض الوطن وتحديدًا في حيفا أعطى هذا اللقاء طعمًا ومعنىً آخر... لا يمكن للكلمات أن تصفه".

يُهدي د. عراقي كتابه "إلى شهداء تل الزعتر الذين صنعوا مجدًا... إلى أهلي، أهالي مخيم تل الزعتر الذين حفروا.. عميقًا في وجداني" وإلى رفيقة دربه التي شاركته كل همومه منذ بداية الطريق...

استشهد في تل الزعتر أكثر من أربعة آلاف لاجئ ومعدم، معظمهم من الأطفال والنساء والمسنين، ومنهم من توفي عطشًا! وجوعًا! نتيجة لحصار المخيم. سقط المخيم بعد أن تعرّض أهله لويلات وشرعت جرافات الكتائب فورًا بتدمير المساكن المهدّمة وتسويتها بالأرض وتم تشريد ما تبقى من لاجئين.

يتحدّث د. عراقي عن المخيم ووضعيّته، وعن الحصار الذي عبّد  طريق المجزرة، حيث تم فرض طوق عسكري في الرابع من كانون ثاني 1976 وتبعه حصار تمويني وتزايد الحصار عنفًا بالتدريج حتى بدأ العدوان الغادر في الثاني والعشرين من حزيران 1976 بهجمات القوات الانعزالية اللبنانية مدعومة من حكومة اسرائيل وجيوشها ، بتواطؤ سوري، سبقها قطع شبكة الكهرباء، وحظر وصول الغذاء ومياه الشرب للفقراء واللاجئين! اجتاحت القوات الانعزاليّة المخيّم يوم 12.08.1976 ونفّذت سلسلة مروّعة من المجازر ضد اللاجئين الفلسطينيين فسقط المخيم بعد يومين من بدء المجازر!

 

 

 

يصوّر د. عراقي تناقص المواد الطبيّة الأساسية :"جاءنا أحد المقاتلين، ذات مرة، وهو يحمل ثوبًا من القماش... وبدأت الممرضات والأهالي يتساعدون في قص القماش، وهكذا وجدنا حلًا لمشكلة الضمادات والشاش"(ص 47)، وحُرِموا من كسرة خبز جافة يسدون بها رمقهم وجرعة ماء تروي ظمأهم! ، وقُطعت الكهرباء فابتكروا إضاءة خاصة "عثروا على كمية كبيرة من مادة البرافين، فقاموا بتسخينها وصبوها في زجاجات بعد أن وضعوا داخلها خيوطًا، وبعد أن جفّت كسروا الزجاجات حولها فإذا هي الشموع" (ص 30)،  واختفت مياه الشرب "الماء، اخذ يتناقص.. وكان كوب الماء الواحد إذا توفر، يدور على أفواه عدد من الحاضرين، كل يتناول رشفة يبلّ فمه، وبوده لو يبتلع كل ما فيه" (ص 53) وحضر الجفاف الرهيب "لقد كانت رهبة موت الأطفال نتيجة الجفاف، بسبب نقص الماء ماثلة أمام أعين الأمهات" (ص 71) ونتيجة ذلك "أخذ الموت ينهش أجساد الأطفال الضعيفة ويصطادهم جماعات" (ص 81) وخيّم شبح الموت على سماء المخيم "وهكذا أصبح الإنسان في تل الزعتر يترقّب الموت، محتارًا كيف سيموت، وأيّ طريقة يختار.. هل سيموت جوعًا؟ عطشًا؟ بقذيفة؟ أم برصاص قنّاص؟ (ص 60) وتوزعت أسبابه من شهداء الماء، إلى شهداء الملجأ، وشهداء المتراس والموقع، إلى شهداء الجوع لتغطي دماؤهم الزكية رمال المخيم!

للدكتور عراقي حضور إنساني حتى النخاع حين ربط مصيره بالمخيم وأهله ورفض الهروب لأنه صار منهم فيقول :"الأهل الذين غادرتهم لمدة سبع سنوات للدراسة في موسكو، وعدت بعدها، لأكون معهم لمدة أسبوع فقط. وبعدها إلى تل الزعتر.. ولكن كان الأهالي هنا أيضًا أهلي، وكانت علاقاتنا الوجدانية قوية، فوَحدنا الألم والصبر والجوع والعطش.. صِرت جزءًا منهم"(ص 81).

كما ويصوّر د. عراقي  معجزة نجاته هو، وخروجه من تل الزعتر يوم سقوطه، في أطول طريق قطعها في حياته وشاهد مئات الجثث الطاهرة للأطفال والنساء والشيوخ على جانبي الممرّ الإجباري وكتب :" مشينا حوالي ثلاثمائة متر، ولكنني أحسست أنها كانت أطول طريق مشيتها في حياتي. كانت جثث الأهالي الأبرياء متناثرة على جانبيّ الطريق.. والكثير من بطاقات الهوية الفلسطينية متناثرة حول الجثث. جثث الشيوخ، جثث الأطفال. رأيت جثة امرأة حامل. وقد أطلِقت النار على بطنها لتوها. والدم ما زال ينزف منها. وتتوالى الجثث أمامي والطريق تطول. وتطول.. وفي نهاية الطريق، كانت هناك آلياتهم وهم على ظهرها يتلذّذون بمنظر القتلى."

د. يوسف عراقي من مواليد حيفا 1945، لجأت عائلته الى لبنان عام 1948، تخرج طبيبًا من جامعة موسكو في 1974. عاد إلى لبنان حيث عمل طبيبًا في مستشفى مخيم تل الزعتر في فترة حصار المخيم بين 1975 و1976. عمل مُدرّسًا جامعيًّا في كلية الطب بجامعة اوسلو، ويقيم في النرويج منذ العام 1988.

التاريخ غير مجرد وغير مطلق، وعادةً يكتبه المنتصر ولذلك هناك ضرورة ملحّة لتوثيق روايتنا الشفوية الصادقة، المُهمّشَة والمُغيّبَة  والكتاب لُبنة ومدماك أساسي من فسيفساء لم يكتمل،  والشهادات الشفوية مهمّة جدا ، شهادات مَن نجى مِن المجزرة ليروي قصّته وقصّة من استشهد من ذويه  لأن المتبقّين من  المنتكبين ومن نجوا من براثن الموت  يتناقصون ويموتون وتموت معهم حقيقة ما حدث علّها تكون عبرة لمن اعتبر، وحبّذا لو وُجد الجسم الذي يسجل تلك الشهادات ويدوّنها كي لا تموت "الحقيقة الكاملة" والتاريخ غير المزيّف.

لذا هناك ضرورة قصوى وملحّة لتسجيل تلك الشهادات للباقين ممن عاشها ثم أرشفة هذه التسجيلات لوضع حد للتشويه وعدم تركها لل"مؤرخين" ولو جُمِعت تلك الشهادات لشكّلت اللوحة التاريخية الصحيحة فالذاكرة الجماعية سلاح لتحقيق العدالة!

يشكّل الكتاب تحية إجلال وإكبار لهؤلاء الباقين، وحبذا لو تُرجمت هذه الشهادة لكل لغات العالم لمحاولة محاربة تغييب وتهميش المجزرة.

وأخيرًا، هذا الكتاب ضروري لكل مكتبة بيتيّة فلسطينية ليكون عبرة للأجيال القادمة علّنا نتعلم منه العِبر.. فهو بعض من الحزن الممزوج بالبطولة... حكاية مخيم صمد واستشهد وأرسل لنا رسالة... منها وبها ومعها ..نستمر!